كان الشاعر أبو الطيب المتنبي (915 - 965م) نادرة زمانه وأعجوبة عصره ،وكان أحد أعظم شعراء العرب، وأكثرهم تمكناً باللغة العربية وأعلمهم بقواعدها ومفرداتها، وله مكانة سامية لم تتح مثلها لغيره من شعراء العربية.. غير أنه علي الرغم من ذلك، أو بسبب ذلك ، عاش حياة غير سعيدة، متنقلاً بين الأمصار، وبين الملوك والأمراء، باحثاً عن بضاعة لم يخلق لها، وعن وظيفة لم يكن مستعداً لها.. كان المتنبي يطمح في أن يتولي "إمارة" أو منصباً في أي دولة وفي أي ولاية .ولذلك مدح "سيف الدولة الحمداني"، وعندما فشل في تحقيق حلمه لديه تركه وهجاه، وسافر إلي مصر حيث كافور الإخشيدي، ومدحه رغبة وطمعاً، وعندما لم يحقق له ما أراد، تركه أيضاً وهجاه أشد ما يكون الهجاء.. وزار أمراء الشام والعراق وفارس!!! إلي أن قتل مع ابنه وغلامه علي مشارف الكوفة، ولم يبلغ الخمسين من عمره!!!! وقصة المتنبي هي نموذج لعلاقة المثقف بمجتمعه في جانبها السييء.. المثقف عندما ينحرف.. المثقف عندما يكون حلمه الشخصي وأمنياته الوظيفية مقدمة علي حلم المجتمع وأمنيات الجماعة.. المثقف عندما يكون سهلاً عليه أن ينتقل من أيديولوجية إلي أيديولوجية أخري، ومن قناعات إلي قناعات أخري، ومن أجندة إلي أجندة أخري، شريطة أن يجد من يدفع له، ومن يموله.. المثقف عندما يكون مجده الشخصي مقدماً علي مجد الجماعة، المثقف عندما يكون ضميره للإيجار مفروشاً أو بدون فرش!! في عام 1906 وقعت حادثة دنشواي الشهيرة.. ولكي تقنع بريطانيا الرأي العام العالمي، أقامت محاكمة لهؤلاء المتسببين في هذه الحادثة.. واختارت بريطانيا أن يكون محاميها هو شيخ المحامين المصريين وأول نقيب للمحامين في مصر: إبراهيم الهلباوي.. كان طموح الهلباوي بلا حدود، وكانت مهارته في المحاماة وفي الإقناع لمن يدفع أكثر، ولمن يحقق أحلامه، ولم لا: أليس من الممكن أن يصبح وزيراً!! ومن أجل ذلك تواضع الهلباوي في تحديد أتعابه، وقدم عرضًا خاصًا للإنجليز (وخفض قيمة أتعابه إكرامًا لهم) ووقف يترافع عن الاحتلال ضد بني وطنه من الفلاحين المساكين، ووصف حادثة دنشواي باعتبارها صراعًا بين ضباط إنجليز طيبين وشجعان وبين فريق من الهمج المتوحشين.. وحكم علي عدد من المصريين بالإعدام والجلد.. وحكم علي الهلباوي (جلاد دنشواي) بأن يعيش بقية عمره (ستة وثلاثين عاما بعد الحادثة) منبوذاً من الشعب، مكروهاً من الجميع، علي الرغم من محاولاته بعد ذلك للتكفير عن هذا الذنب. المثقف عندما ينحرف، يحرف الكلم عن مواضعه، ويخرج بالأحداث عن سياقها، ويحاول أن يلبث الزيف ثوب الحقيقة، وأن يثبت أن له بطولات و"كرامات" لم تكن له.. المثقف عندما ينحرف يكون أكثر تأثيراً وضرراً علي المجتمع من أي منحرف آخر.. انحراف المثقف يكون بمثابة الإصابة بالسرطان ويكون عادة في العمق، وانحراف من هم دونه يكون دائماً خدوشاً علي السطح.