تحضرني قبل أن أبدأ مقالتي، حكايتان، أولاهما متعلقة بالكتاب الثاني وقبل الأخير من رواية "الإخوة كارامازوف" لدستويفسكي، والذي يتضمن فصلا طويلا عن الراهب الروسي زوسيما، ظن صاحب الترجمة السابق علي سامي الدروبي، انه باب خارج علي متن الرواية، فاستبعده، ولم يفطن إلي ان إليوشه، هو الأخ المتدين بين الأخوة كارامازوف، لا تكتمل معرفتنا به إلا إذا اطلعنا علي مسارّات- بتشديد الراء- الأب زوسيما واعترافاته، فأساء صاحب الترجمة إلي الترجمة، حتي جاء سامي الدروبي وعمل بدأب، وأعادها إلي صوابها، لتصبح ترجمته هي المعتمدة عندنا جميعًا، والحكاية الثانية معلقة بالثالوث نجيب محفوظ وحسن الإمام ورجاء النقاش، فنجيب محفوظ يؤلف روايته زقاق المدق ويحكم علي بطلته حميدة باستمرار الحياة، وحسن الإمام يخرج فيلما عن الرواية ويحكم علي حميدة او شادية بالموت، ورجاء النقاش يصرخ ويعترض علي الإمام، ويلومه علي قتله حميدة، فهي حسب تأويل النقاش ليست مجرد امرأة، فإنها مصر التي يجب ألا تموت يا حسن، هل كان لابد له أن يقول يا سعد، او يا سعد الدين وهبة لأنه كاتب السيناريو، رجاء يفتح حقيبته وكأنها حقيبة النصف الأول من ثقافة الستينيات، أتخيله يخرج تأويله الذي بدا لامعا ثم انطفي بسرعة لأن اللمعة مغشوشة، وكنت أحسب أن مثل هذا التأويل قد أصبح جزءا من الماضي، جزءا ساذجا من الماضي، لا يقبل التكرار، أول مرة تعرفت فيها علي محمد المنسي قنديل، كانت عندما قرأت له علي صفحات مجلة الطليعة، وفي ملحق الأدب والفن، أيام فاروق عبد القادر علي الأرجح، قصة رحلة العم المنسي وابنه محمد، ولفتتني القصة بقوة، وبدأت أتابع ما يكتبه محمد المنسي من قصص وروايات، منذ احتضار قط عجوز، وبيع نفس بشرية، والعشاء مع عائشة، ومن قتل مريم الصافي، وانكسار الروح، وقمر علي سمرقند، وحتي روايته الأخيرة(يوم غائم في البر الغربي)، وبدأت أتابع أيضا رحلاته التي كان ينشرها في مجلة العربي الكويتية، ولقد استفاد كعادته في استثمار كل معارفه من هذه الرحلات عند كتابته رواية قمر علي سمرقند، وبدأت أتابع ثالثا صياغته الجديدة لقصص التراث، محاولا أن يمرق بها من باب الأسطورة، وإلي باب الأبد إذا استطاع أيضا، وقد استفاد مجددا في استثمار ما قرأه وأحبه من كتب التراث، أما فيلمه (آيس كريم في جليم)، فكان شاهدا مثاليا علي قيامه بواجبات الأبوة، وقبوله لما فرضته من ضرورة مشاركة ابنه فيما يحبه هو وأبناء جيله، فاحتملت عمرو دياب كأنه من هناك وكأنني من هنا، واقتنعت تمام الاقتناع، بأن المنسي صاحب واحد من أعزب الأساليب العربية وأنصعها كما يقول عنه صديقه القاص محمد المخزنجي الذي هو أيضا صاحب واحد من أعزب الأساليب العربية وأنصعها، وأذكر أنه ذات لقاء من لقاءاتنا القليلة أنا والمنسي، أذكر أنه تحدث بإعجاب كبير عن رواية ألبرتو مورافيا (أنا وهو)، والتي لما قرأتها تخيلتها الأضعف بين ما قرأت لمورافيا، لأنها درس عملي في كيفية صناعة رواية عن فكرة كاملة سابقة عليها، وهاآنذا لما وقعت في يدي رواية المنسي (البر الغربي)، فرحت بطول الرفقة لأن الرواية طويلة، تقترب صفحاتها من ستمائة صفحة، وتمنيت أن أعيشها بمحبة وهدوء وروية تسمح لي بطول الاستمتاع، ومنذ الفصل الأول تهيأت لذلك الأسلوب، أسلوب المنسي، الذي صقله الزمن وهذبته الخبرة ولذلك السرد المصاحب له كقرين لا يكف عن الإمتاع، دخلت مع عائشة تلك المدرسة الأمريكية التي تديرها راهبة خواجاية، وتساعدها راهبات من جنسها، وكنت من قبل قد صاحبت عائشة في رحلتها مع أمها القوية التي ستكلف الرجل العجوز الماهر بأن يدق علامة الصليب المقدس ويكتب تحتها الاسم ماري، علي ذراع البنت، شرط أن يكون الوشم باهتا كأنه مرسوم منذ سنوات، كانت الأم تنجو بابنتها من رغبات زوجها عمران وهو عم عائشة الذي فحولته لا تهدأ، والذي خلف أباها علي أمها وعليها، والذي هو عم غير شقيق أمه من قبائل الغجر، بعد الفصل الأول الجميل، وكل فصل في الرواية جميل في ذاته جمالا لا نرغب أن نقاومه، ولا نستطيع، بعد الفصل الأول، تبدأ عائشة في التخلي عن عائشة البنت والمرأة، لتصبح حزمة من رموز، أو لتصبح رمزا واحدا غليظا، تبدأ عائشة في التخلي عن واقعية نجيب محفوظ لحساب تفاسير رجاء النقاش وتأويله، فهي طفلة علي الفطرة لا تملك التمييز بين دين ودين، ثم هي مسيحية، ثم هي مسلمة، ثم مطاردة ومحروسة من إناث ذئاب أرضعتها رائحتها مع لبنها، ثم معشوقة المثّال محمود مختار صاحب نهضة مصر، وأمينة سر مصطفي كامل، لو لم أكن مصريا لتمنيت أن أكون، وصديقة عبد الرحمن الرافعي، ثم المغتصبة المستسلمة لعمها عمران الذي سوف تقتله الذئاب، ثم نزيلة بيت المتعة وش البركة، ثم المترجمة الخاصة لزوجة اللورد كرومر ومن بعدها للورد نفسه، ثم الدليل الذي سيهدي هوارد كارتر إلي مقبرة توت عنخ آمون، وسوف تظل الذئاب إحدي مواد اللحام التي يستخدمها المنسي في ربط فصوله ولصقها، إيمانا أنها فاتحة الأبواب المغلقة، عيونها المضيئة تخترق حجب الظلام، الذئاب وعت حورس وهو صغير، وأرضعت توت في طفولته لتطارده بقية عمره، كما فعلت عائشة، المنسي مسكون إذا بتأويلات رجاء النقاش، لعل عائشة عند المنسي هي مؤنث عائش والعائش في الحقيقة عند نجيب محفوظ هو إخناتون، وهكذا هو في رواية المنسي، إلا أن إخناتون المنسي سيظل طرفا في تاريخ مصر، بينما عائشته ستصير كل التاريخ، في اعتقادي أن الروائي البارع الجميل الذي يشبهه المنسي، ويشبه المنسي، يطمح طموحات لا تحد، طموحات جامحة جامعة، ليس آخرها أنه يتمني لو تخترق روايته جدران الأزمنة كلها، وهذا طموحك، وليس آخرها إنه يتمني في الوقت ذاته أن تدل روايته علي زمن كتابتها علي زمن كاتبها، وتتميز به، وهذا طموح واجب، والتأويل الذي سيطر علي المنسي، حرم روايته من زمنها، وسحبها إلي زمن كتابة أقدم بكثير، لعله أقدم من الستينيات، وبطريقة لم يعد أحد يرغب في ابتداعها أو اتباعها، يمكنكم أن تسألوا عن الشعراء هؤلاء الذين هاموا في الوطن المرأة، والمرأة الوطن، تفرقت فصول الرواية ولم يجمعها إلا خيط الرؤية الواهي الذي تسبب في الشعور بملل الرؤية واختلاط الروائي العارف بالقارئ العارف، مثله بالنتائج والتوقعات والمصائر، العارف، مثله بالعبرة والمغزي، الخيط الواهي الذي تسبب في عدم خفاء الصنعة الواجب خفاؤها، مادام الخيط ظاهرا مثل جرح أو مثل فضيحة، خاصة إذا كان الكتاب كله لا يكف عن تذكيرنا بأن عائشة هي المعادل غير الموضوعي لمصر، كنت عندما بدأت قراءة الرواية أتوهم أن عائشة مثل مريم، هما اسمان يميل إليهما الكاتب، ويستعذب موسيقاهما، وإيحاءاتهما، ولكنني فوجئت أن عائشة عاش يعيش اسم للخلود والحياة الدائمة، وهو ما يليق حسب رغبة المنسي بمصر الخالدة، هذه الرغبة سمحت له أن يصيد الأسماء التاريخية، خاصة القريبة العهد التي يصعب أن نعجنها بزيت الأسطورة، إلا إذا بذلنا جهودا فنية مضافة تنبني علي قدر هائل من الصدق الفني، وليس الصدق التاريخي، أعوذ بالله، ولقد اعتقد المنسي أن عائشته المعادلة لمصر كفيلة بأن تمنحه الثقة الكاملة بصدقه ساعة خرج عليها مختار ومصطفي كامل وكرومر وكارتر، وساعة فرضها عليهم، وأطاح بالدال في سبيل المدلول، وأطاح بالمرأة في سبيل المرأة المعني أو الوطن، عائشته كفيلة بأن تضع أسماء فصول الرواية العشرة هكذا، أسيوط، المنيا، مقابر بني حسن، وادي طيبة، السيدة زينب، نجع بني خلف، وش البركة، طيبة، تل العمارنة، طيبة أخيرا، وكأنها أماكن علي جسد عائشة، أقصد خارطة مصر، عائشة كفيلة أيضا بأن تتحمل تلك النتيجة غير المنتظرة، ربما عند صاحب الرواية، وربما عند أصحاب آخرين، لا أزعم أنني منهم، وأن تبدو عائشة وكأنها تتنكر بعض الشيء لما يدعيه البعض عن عروبتها، دون أن تتنكر لإسلامها، إنها عائشة المصرية، أو مصر المصرية، عندما يسأل الزعيم مصطفي كامل مواطنه المثال محمود مختار عن الحضارة التي ننتمي إليها جميعا، هل نسيت أننا ننتمي إلي الدولة العثمانية حتي ولو كره الإنجليز ذلك، يجيبه مختار، محبوب عائشة، لم أنس ولكن الحضارة الفرعونية هي دائما التي تميزنا، هي التي تجعل مصر فريدة من نوعها، أما رموز الحضارة الإسلامية، فنحن نتشارك فيها مع كثيرين، انتهت إجابة مختار التي تؤيدها الرواية بفصولها جميعا، ويؤيدها حتي عنوان الرواية، لا يشغلني كثيرا المعطي الفكري لرواية المنسي في حد ذاته، ولكن يشغلني مسئولية فكرته عن خلخلة بناء الرواية، هل أقول إفساده، عن تحولها أي الفكرة إلي عقيدة علي هيئة مادة لحام، تلصق الفصول الجميلة بعضها ببعض، لتصبح أقل جمالا، وليصبح الجمال الخالص عرضة للخذلان داخل عمارة فنية غير ملائمة، لكن المدهش أن التأويل الذي ساق فصول الرواية أمامه كقطيع غنم، هو نفسه الذي يقدر أن يجعل رواية البر الغربي، رواية قراء كثيرين ونقاد دعاية محترفين، قبل قراءتي للرواية كنت أظن أن المعارف الصلبة التي لا تتحول إلي سوائل أو غازات، تدخل بنفسها إلي العمل الفني، أما بقية المعارف التي تتحول فيكفي أن تدخل ببخارها، ومعارف المنسي التي أصر علي استثمارها جميعا، أكدت لي صحة ما أظنه، وخطيئة ما فعل، النسبية يا سادة تجعل تقطيع أوصال أورفيوس تشويها لأورفيوس، وتجعل تقطيع أوصال البر الغربي إلي عشرة فصول متفرقة، إعادة بعث لجمال كل فصل، ليتني أجد صاحب الترجمة السابق علي سامي الدروبي، وأوصيه بتقطيع الأوصال، تقطيع أوصال البر الغربي.