"عودة عايش" و"رمضان المدلّل"، أرامل وثكالي بالحجاب، كلها ملامح عربية لأبطال رواية أمريكية مصوّرة! الرواية بعنوان "هوامش أو حواشي غزة" ل"جو ساكو" صحفي ورسّام أمريكي شاب، تستعيد بطريقة "الكوميكس" جرائم إسرائيل في حق الفلسطينيين، واعتبرت بحسابات "وقتية" أبرز حدث - حتي الآن - يستهل به العام الجديد وضعه الثقافي العالمي، ليس فقط لاقتران موضوعها بأشد مناطق الصراع سخونة وعنفوانا وتطوّرا سريعا، بل أيضا لحجم الهوس الذي تحشده قصص "الكوميكس" عموما حول العالم، وهو ما بدأ تلمّسُه - مصريا - مؤخرا مع رواية "مترو" التي تنتقد صورا سلبية في المجتمع القاهري، أما ساكو في قصته المصوّرة، فيشهر صفعة في وجه إسرائيل.. يقترب أكثر من شخصيات فلسطينية حقيقية، ويثير حفيظة مؤرخين إسرائيليين محافظين ويساريين، ويشحذ همما عربية متفرقة رأت في ترجمة مقتطفات من الرواية علي منتديات عربية و"جروبات" في حب ناجي العلي وإدوارد سعيد، أحد سبل المقاومة. نتعاطي في هذه المساحة مع روح الرواية - التي تعتمد علي تقارير صحفية واقعية - كما نقلتها وتداولتها بعض المنتديات تحت عنوان "هوامش حزينة عن المذابح الهمجية"، وتعاطف أصحابها مع ساكو بوصفه مهتما بضحايا التاريخ، ومشدودا في أعماله إلي أمكنة وبشر منسيين في هذا العالم، حيث يبدأ كتابه بمقدمة موجعة "علي مدي العقود الطويلة دفنت تفاصيل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي تحت أنقاض الحرب كما دفن البشر". وبهذا يكمل ساكو طريقا بدأه من قبل، عندما أصدر في التسعينيات مجلدا مصورا من تسعة أجزاء عن فلسطين، كتب مقدمته المفكر الراحل إدوارد سعيد معتبرا إياه مليئا ب"حوارات متورّمة بعجز الفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال"، أما كتابه الجديد الذي بين أيدينا فيتحدث عن مجازر خان يونس ورفح أثناء العدوان الثلاثي علي مصر، عبر سرد قصصي مليء بمشاهد شديدة التأثير، فهاهي امرأة إسرائيلية تسأل ساكو الذي يظهر بنفسه داخل الرواية: "أليس من المفروض بك أن تستوعب جانبنا من الحكاية؟"، فيرد: "طوال حياتي لم أسمع إلا الجانب الإسرائيلي"، الأكثر سخرية ومرارة، صبية فلسطينية تسأل ساكو: "لماذا لا يوجد في بلادكم فتح وجبهة شعبية؟". ببراعة "الكوميديا السوداء" وفكاهة لاعب دمي يتمتع جو ساكو - ذو الأصول المالطية - بقدرة خارقة علي التقاط التفاصيل المروية، والبعد الإنساني لبشر عاديين، ينغمس في أزقة رفح وخان يونس، يرسم الطرقات الضيقة، أطفال المدارس ورجال عاطلين عن العمل، لاجئين وأرامل وشيوخ، أما إسرائيليي ساكو فمرسومين بمساحة من الشك وانعدام الثقة، أشكال من السلطة الظالمة والمريبة، أو شخصيات منفّرة، فهاهو جندي إسرائيلي يرفض أن يسمح لأناس بالعبور من حاجز في الضفة الغربية، مُظهراً طقم أسنان هائل وعدائي، وملوّحا ببندقية "إم 16". غزة بالنسبة لساكو كما يظهر في الرواية "حياة من تجوال علي غير هُدي داخل مكان أصبح سجنا"، و"مكانا مفرطا في الزحام، ومساحة منزوعة الجذور والملكية". يصوّر الحياة في غزة، جحيم الحرب، خواء الوقت، رتابة الحياة في مخيمات اللاجئين، عمال مسرّحين، فلاحين فقدوا أراضيهم، أمهات ثكالي، شبان عاطلون، شرطة، شحاذون، وعائلات تناثر أفرادها بين السجن والموت والهرب والبطالة والأحزاب والمنظمات الفلسطينية، كما يصوّر حلقات الشاي والقهوة، أحاسيس السجن، الحضور الدائم للوحل والبشاعة عند الحواجز العسكرية والمعابر، وداخل الأسواق المكتظة بقنابل الغاز، إلي جانب رسوم الحوائط وأشكال المقاومة بالرسم. في شهادة جو البصرية - كما كتب أحدهم - تمجيدا لرغبة الفلسطيني الصامتة في مواصلة الحياة، وإصرارا علي إعادة سرد قصته أمام العالم، ومقاومة مشاريع "كَنْسه" كما يحب أن يستخدم ساكو هذا التعبير، وفي نفس الوقت وبذكاء، يعبّر المؤلف الرسام عن عدم ترحيبه بالروح القتالية الفلسطينية، خاصة تلك المُعبَّر عنها جماعيا بشعارات أو تلويح. "هوامش في غزة" يجمع بين التحقيق الصحفي والحكاية المصوّرة، عن المذبحة التي طواها النسيان وانشغل العالم بالحرب عنها، بينما تعترض اليوم دوائر المؤرخين الإسرائيليين علي حقائق ساكو في كتابه وأرقام الضحايا، مثل مائير بايل، مؤرخ عسكري إسرائيلي يساري، لكن التحدي الجديد والمثير الذي يقدّمه ساكو في حكاياته، هو مقابلاته الحية مع شهود العيان الناجين وأسر الضحايا.