أمنيات ومحاولات لإعلان الوجود والاختلاف، ومطالب بالاستقلال، وتكرار، وحاجه إلي بعض التنظيم الجيد، حتي لا يهدر جهد الكثيرين، خاصة في مواعيد الجلسات، والابتعاد عن تطبيق نظرية الحشد كمعيار النجاح، هم ملامح مؤتمر أدباء مصر في دورته الرابعة والعشرين، الذي بدأ فعالياته مساء الجمعة الماضية بالإسكندرية، تحت عنوان "المشهد الشعري الراهن" وهو عنوان عريض حاول القائمون علي المؤتمر أن يجمعوا تحته أطيافاً مختلفة من الاتجاهات الشعرية. بدت الأمنيات وإعلان الوجود فيما قاله أدباء مصر في الأقاليم في الجلسة الحوارية مع وزير الثقافة فاروق حسني، كما بدت أيضا في كلمة أمين عام المؤتمر الشاعر فتحي عبد السميع، عندما طلب من الوزير أن يتم تطوير مفهوم أدباء الأقاليم وقال: إن كلمة أدباء الأقاليم فقدت معناها، بل هي ليس لها معني من الأساس، ففي الأقاليم لدينا موروثات تتبدد، ولابد أن نقبض عليها، وكنوز تحتاج لأن نكتشفها، كما أن هناك أقاليم تستوجب تعاملا خاصا من وزارة الثقافة. عبد السميع الذي أعلن عن أن الشعر موجود وغير منفصل عن الواقع ولا يتعالي عليه، وأن هذا الوقت هو وقت الشعر قال: تركنا كل شيء وجئنا نحتفي بالشعر، تركنا أزمات وقضايا كبيرة، فسأل البعض هل هذا وقت الشعر؟ ما هذا التعالي علي الواقع، نعم أقول هذا وقت الشعر، فالشعر ليس رفاهية وليس استرخاء وتسلية، هو ضرورة وبناء متين، ليس غياباً عن الواقع، بل هو الحضور الأعمق في قلب العالم، ففي طرح الشعر علي بساط البحث طرح لقضايانا، لقد جئنا نحتفل بالشعر، بالقمر المخنوق بحبال، منها حبل الجهل به، والتصورات الخاطئة عنه، فقد أصبح الشعر كائنا هامشيا يطارده الجميع، كما يطارد الصبيان والحمقي نبيا في بداية دعوته. واختلف المؤتمر عن الكثير من المؤتمرات والندوات بأنه جمع كل الاتجاهات وهو ما أكده عبد السميع قائلا: لم نهمش أحداً أو اتجاها، وانفتحنا علي التجارب الجديدة التي لم تأخذ حقها، وحرصنا علي التجديد في الباحثين والأبحاث، وهو ما يرفع عن المؤتمر تهمة تكرار الباحثين والمحاور، فأمانة المؤتمر قدمت نموذجاً يحتذي به علي عكس الأمانات السابقة، فلم يشارك أحد منهم ببحث أو جلسة، كذلك لم يتم تكريم أحد منهم. والتكرار كان في المناقشات سواء في الجلسات البحثية أو في جلسات الشهادات، وهي المناقشات التي لم تحسم منذ سنوات وطاردت المؤتمر إلي الإسكندرية وسوف تلاحق أي مؤتمر أو ندوة تتحدث عن الشعر، خاصة قصيدة النثر، ففي الجلسة البحثية الثانية دارت المناقشات حول شرعية القصيدة النثرية، بعد أن قدم الشاعر رفعت سلام بحثا بعنوان "مرجعيات قصيدة النثر المصرية والعربية " أشار فيه إلي أن سؤال "المرجعية" سؤالٌ مضيءٌ لأبعاد وجذور "قصيدة النثر" المصرية والعربية، لعله -في ذلك- سؤال الأسئلة، فالمنطق السائد -لدي أفراد الطرفين المتخاصمين- هو منطق الإجابة، الإحاطة، المعرفة النهائية، القاطعة، واليقين.. منطقٌ مغلق علي نفسه، ذو طبيعة جازمة، كالمنطق الديني، وقال: هو منطق ينطلق من "الذات"، باعتبارها ممتلكةً للمعرفة الشاملة، الكاملة، النهائية. ف"الذات" هي مركز العالم والعلة الأولي، والخارج- الأفكار، الأشكال، الأعمال- ليس سوي تجلٍّ للذات، وانبثاق منها، وتعبير عنها، فلا استقلال للخارج عن الذات، ولا قوانين موضوعية له منفصلة عن قوانين الذات. وأكمل: ولا عجب في أن يتفق الطرفان المتضادان- في الوعي بقصيدة النثر- في الانطلاق من نفس "النهج" والأرضية، علي اختلاف الموقف من الموضوع، بما هما- معًا- نتاج نمط معين من الوعي الثقافي السائد، الذي ينطوي علي آليات خاصة- انفعالية وغير نقدية غالبًا- لتشكيل الوعي وبنائه وكيفيات تجليه، لا تختلف في جوهرها عن "رجل الشارع" العادي. وهو ما بلغ حد أن ينسي الأكاديميون منهم- أساتذة البحث العلمي، فيما يفترَض- آليات البحث المنهجي، ليندرجوا في نفس السياق، بطرائقه العشوائية، فيما يكتبون حول الموضوع، فلا فوارق ذات بال في مختلف الكتابات، ولا تمايز منهجيا بين الفريقين في كيفية تناول الموضوع، ليكون الموضوع هو الضحية المعرفية الأولي، وهكذا يكون علينا دائمًا أن نبدأ- معرفيا- من الصِّفر، أن نعيد طرح الأسئلة الأولي، أن نسائل الشائع والسائد من ركام الأفكار والخواطر والتأملات، وأن نسعي لفض الالتباس والخيوط المتشابكة. والشاعر عاطف عبد العزيز الذي قال في شهادته الشعر لا ينطلق من المواضعات أو المسلمات، لأنه يكتشف نفسه بنفسه، ويبتكر بنيته الإيقاعية في لحظة الكتابة ذاتها، وبالتالي فهو يخاصم منذ البداية كل نظام عروضي جاهز، إنه بذلك يجسد الجوهر الصحيح لمصطلح القطيعة مع الماضي، تلك القطيعة التي تقترح أبنية جمالية جديدة فوق أنقاض أبنية فقدت قدرتها علي استيعاب أشواق الإنسان، إنها القطيعة الواعية والقادرة علي التمييز بين الثابت والمتحول في الثقافة، والقادرة علي فتح سماوات الحرية علي آخرها، دون الوقوع في فخ الاستلاب، أو إعادة تدوير قمامة الآخرين. وأكد أن عبارة القطيعة مع الماضي التي وردت في شهادته قصد بها ضبط هذه العبارة، وقال: هذا المصطلح لا يصلح بإطلاقه، ففي الثقافة هناك الثابت والمتحول، وهناك عناصر محل مسالة مثل العروض، فالشعر أوسع كثيرا منها. أما المطالبة بالاستقلال، وهي أمر يحتاج للتفكير حتي يتمكن هذا المؤتمر من الاستقرار، وأن لا يتكرر معه ما حدث هذا العام في البحث عن محافظة تقبل استضافته، هو ما عبر عنه الدكتور سيد البحراوي في الكلمة التي طلبها عقب تكريمة، قائلا: أطالب بأن يستقل المؤتمر عن وزارة الثقافة، فالاستقلال من وجهة نظري هو الطريق الوحيد لثقافة جادة وبنائه، وأتمني من الوزارة أن تساهم في تكاليف المؤتمر من مواردها المأخوذة من خير الوطن وأموال دافعي الضرائب، ولكن دون قهر أو قمع أو توظيف و خدمة أغراض ليست بالضرورة أهدافاً حقيقية للمثقفين وللشعب الذي يتمني العدل والحرية".