انشغل الإنسان منذ ظهر علي الأرض بالمكان فهو الذي يراه حوله وهو الذي يحدد خطواته وكان عليه في البداية أن يفعل ما يستطيع ليتقي شرور المكان الذي لم يكن رحيما به أبدًا. كانت الكهوف القديمة مفتوحة أمامه يمكن أن يدخلها هاربا من بطش الحيوانات المفترسة والصقيع أو الحر وفي هذه الكهوف بدأ يمارس شيئا من الرسم علي الجدران يقطع به الوقت ويسجل أحلامه ومخاوفه وكأنه يسيطر علي المكان في الخارج بعد أن وجد فيها نوعا من الاستقرار. ثم رأي الإنسان الليل يأتي بعد النهار فأدرك أن شيئًا يحدث بعيدًا عنه يسبب هذا الضوء وهذه الظلمة ولم يكن صعبا أن يعرف أن الشمس سبب الضياء واختفاءها سبب الظلمة فهو يري ذلك يحدث أمام عينيه كما أنه في الكهوف استجاب جسده للنوم ثم استيقظ علي نهار جديد. لقد أدرك الإنسان الوقت وكما حاول ونجح أن يسيطر علي المكان حاول السيطرة علي الزمان، ولم تنقطع هذه المحاولة حتي الآن رغم أنه يدرك أن صناعة الوقت تحدث بعيدًا عن قدراته وأنه لا يستطيع السيطرة علي الوقت كاملا إلا إذا أوقف دوران الأرض ومن يستطيع ان يفعل ذلك؟ شيئا فشيئا أدرك الإنسان قيمة الوقت فلقد رأي أنه إن لم يصنع لنفسه مكانا دافئا سيموت في الشتاء القادم وإن لم يعد إلي بيته قبل الظلام ستأكله الحيوانات وإن لم يعد زراعة النباتات في موسمها لن تنبت من الأرض وهكذا حتي أدرك احتياجه للإمساك بالزمن بشكل واضح وبعيد عن الاعتماد علي الذاكرة فابتدع التقويم وقسم الوقت إلي أعوام وشهور وأسابيع وأيام وكان هذا هو أقصي ما يستطيع أن يفعله مع الوقت. ظل الزمان مستقلا عن الإرادة البشرية أقصي ما يستطيع الإنسان من سيطرة عليه هو أن يعيد إلي ذهنه بعض ذكرياته وهو يدرك تماما أنها لن تعود ولن تغادر منطقة الخيال وانشغل الإنسان بالوقت من ناحية أخري ترتبط بالعمر الذي هو قصير جدا أمام العالم فصار عليه أن يسبق الوقت ليحقق ما يريد لنفسه أو لأسرته أو لمجتمعه أو للبشرية قبل أن يغادرها إلي وقت آخر لا يعرف أحد كيف سيكون وإن آمن كل البشر به وبأنه سيكون أفضل لأنه هناك سينتهي الظلم وسينال كل شخص جزاءه عن الخير الذي فعله أو الشر الذي اقترفه. لكن ذلك لم يصرفه عن السيطرة علي الوقت هنا والآن علي الأرض. هناك أمم أدركت قيمة الوقت فاندفعت للعمل في الدنيا بأقصي قوة وتقدمت وكل هذه الأمم تناوبت علي امتلاك الحضارة ردحا طال أم قصر من الزمن وحار الفلاسفة في فهم تقدم وتأخر الأمم ووضع الكثير منهم القوانين المنظمة لذلك مثل التحدي والاستجابة أو صراع الاضداد وكلها قوانين صالحة لتفسير ما جري وما سيجري حتي وصلنا إلي هذا العصر الذي هو عصر الوقت بامتياز إذ لا فرصة للأسف أمام من يتأخر عن قبول تحدي المرور السريع للوقت ففي كل ثانية تقريبا اختراع جديد هنا أو هناك حتي أن الإنسان قام بتقسيم الثانية إلي مليون وحدة، الفيمتو ثانية، للسيطرة أو محاولة السيطرة علي الظواهر الطبيعية بطريقة أكثر احكاما تتيح حتي السيطرة عليها قبل أن تحدث وسيكتشف الإنسان أنه حتي هذا التقسيم الجديد واسع وفضفاض للزمن وسيحتاج لتقسيم الثانية إلي وحدات أقل من ذلك للسيطرة علي ما يحدث حوله أو يريد أن يحدثه هو في المكان وهكذا فالصراع الأساسي للبشرية هو مع الوقت وبمعني أوضح هو مع العلم. لم تعد الأمم في حاجة إلي استعمار أمم أخري للسيطرة علي ثرواتها فهي تستطيع أن تصنع هذه الثروات. النانو تكنولوجي سيتيح صناعة كل المنتجات الطبيعية من أشياء أخري. وكل ما يقال عن تفوق جنس علي الأجناس لأسباب دينية أو لون البشرة سيبدو لا قيمة له ما دامت الأمم الأخري المختلفة في اللون والدين حتي لو كان مجوسيا تستطيع أن تتفوق في السيطرة علي الوقت وتنتج بالعلم ما لا تستطيعه الأمم الأخري ذات التاريخ العريق أو الديانات السماوية. أجل العصر الذي يتميز فيه الناس باللون أو الدين اقترب علي الانتهاء وكل من يثير هذه النعرات يعود بنا إلي الوراء آلاف السنين فالتميز الوحيد الآن وفيما بعد هو تميز السيطرة علي الوقت ومن ثم علي المكان والطبيعة كلها. أنت تستطيع الآن بضغطة علي الماوس أن تدخل من الإنترنت علي أي مكان وزمان ولا تتميز عن غيرك في ذلك بكونك مسلمًا أو مسيحيا أو يهوديا أو بوذيا أو ملحدًا. أنت تتميز بقدرتك علي السيطرة علي الوقت وبهذه السيطرة تمتلك الحاضر والماضي وتستطيع أن تمتلك المستقبل إذا ساهمت في صناعته. هل يمكن أن نعي هذا الدرس وندرك للمرة الأخيرة أنه لا مكان لأمم لا تعرف السيطرة علي الوقت وأنه لا سبيل لهذه السيطرة إلا بالعلم. العلم الذي ينقص مدارسنا وجامعاتنا وحياتنا بشكل عام. العلم هو الذي سيقضي علي النعرات العنصرية والطائفية في العالم كله ونحن في حاجة إلي هذا العلم لنقضي علي ذلك في بلادنا. بل نحن في حاجة إلي ذلك قبل غيرنا. تصور أنت لو أن العدد الأكبر من شبابنا قد حصل علي تعليم كبير وعظيم هل كان سيعاني من هذه البطالة؟ هل كان سيسافر ليعمل في مهن رديئة؟ هل كان سيرتدي هذا الخليط من الأزياء الذي يعود إلي عصور الجهل والجهالة؟ هل كان سينظر إلي الماضي باعتباره الماضي السعيد أو إلي الآخرة باعتبارها بديلا عن الدنيا؟ هذا هو التحدي الكبير لأي أمة تريد الاستمرار. الوقت والسيطرة عليه ولن يكون ذلك إلا بالعلم. لن يتغير المكان إلي الأفضل إلا بالسيطرة علي الزمان قبل ان يمضي ونحن نعود فيه إلي الوراء ولا سيطرة علي الزمان الا بأن نكون اسرع من ايقاعه ودقاته ولن يكون ذلك إلا بالعلم.