علي الرغم من المدة التي قضاها الفنان محمد عبلة في الخارج، والتي بالطبع أثرت علي أسلوبه وفنه، فإنه فنان غارق في مصريته، ليس فقط في معارضه التي تناولت العائلة المصرية والشارع، والنيل، ولكن أيضا تلمس هذا بمجرد الجلوس إليه، استطاع أن يصل -إلي حد كبير- إلي سمات تشكيلية مصرية ومستحدثة في آن واحد، جمع بين الفن والسياسة باقتدار، يؤمن بأن الفن لا ينفصل عن السياسة، وهو أيضا فنان "فاعل" ومؤثر في الحركة التشكيلية، قام بإنشاء متحف للكاريكاتير هو الأول من نوعه في الشرق الأوسط، بالإضافة إلي إنشائه لمركز الفيوم للفنون، علاوة علي ابتكاره للطريقة "التفاعلية" في الفن، والتي تنسب له تحديدا. رسم في معرضه، الذي افتتح مؤخرا بقاعة الزمالك للفن، القاهرة ليلا، تتلألأ أضواؤها، وبمناسبة هذا المعرض، كان لنا معه في روزاليوسف هذا الحوار الذي أبحرنا فيه معه في رحلة من البداية. حدثنا عن بداياتك الفنية؟ - بدايتي جاءت مبكرة حتي قبل التحاقي بالمرحلة الابتدائية، كنت أشاهد أخي الأكبر وهو يرسم، مما شجعني علي أن ارسم، لكنني كنت أسعي لأن أرسم أفضل مما يرسم، وعند التحاقي بالصف الأول الابتدائي، كنت أجيد القراءة والكتابة، ولم أكن بحاجة للحصص الدراسية، فكنت أجلس وأرسم، فيطلب مني أساتذتي أن أرسم لوحات للفصول، وهكذا ظللت طوال فترة دراستي الابتدائية والإعدادية والثانوية، إلي أن بدأت معارضة أسرتي للفن أثناء دراستي الثانوية، حتي لا تشغلني، خاصة أن والدي كان يريد أن أدخل الكلية الحربية، وفعلا التحقت بها لمدة أسبوع واحد، ولم أتمكن من المواصلة، وبعدها التحقت بكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية دون علم أسرتي، وحين علم والدي منعني من دخول بيتنا في المنصورة، وظللت طوال سنوات دراستي في مواجهة الحياة منفردا، رغم مصاعب الحياة وقلة الموارد وهو قرار لم أندم عليه، وأنهيت دراستي بمشروع التخرج عن رحلة عمال المراكب في النيل، وكنت الأول علي دفعتي، ولكن الفنان الراحل حامد عويس وقف ضد تعييني في الكلية. وكنت أثناء دراستي متأثرا بالفنان الراحل حامد ندا، الذي كان أستاذا بالكلية، وأذكر أن ندا عندما شاهد لوحتي أثناء تحكيم مشروع تخرجي، بحث عني وقال لي: "انت ولد هايل، انت بتفكرني بنفسي في شبابي"، كما كنت متأثرا بالفنان سيف وانلي ك"حالة" خاصة شعره الطويل وأسلوبه الفني المميز. كيف بدأت رحلتك الاحترافية بعد انتهائك من الدراسة؟ وبعد انتهائي من الدراسة أقمت معرضي الخاص الأول عام 1978، في المركز الثقافي الإسباني في القاهرة، ضمن أول معارضه الفنية، مما رشحني للحصول علي منحة في أكاديمية "سان فرناندو" فسافرت إلي إسبانيا، ولكنني بعد ذهابي اعتذرت عن المنحة عندما وجدتهم يضعوننا في مجموعات دراسية تساوي المرحلة الثانوية عندهم، واضطررت وقتها للعمل والرسم في الميادين بالنهار، وارتياد المتاحف والتعرف علي أعمال كبار الفنانين الغربيين في المساء، وبعد أن أتيح لي جمع ما يكفيني من مال، أتيحت لي فرصة التنقل بين العديد من الدول الأوربية منها ألمانيا، سويسرا، النمسا وغيرها، وبعدها أتيحت لي فرصة العرض الأولي في ألمانيا، وكان النجاح الذي حققه المعرض فرصة لعروض أخري في غيرها من الدول، وهناك في الغرب بدأت صدمتي الثقافية، ورحت أبحث عن إجابة عن علاقة الشرق بالغرب، ودور الفن ووظيفته، وكلها تساؤلات حاولت الإجابة عنها بتجاربي الفنية. ما الجديد الذي تعلمته من دراستك في الخارج؟ كانت لدي رغبة عارمة في دراسة علم النفس، وأتيح لي إشباع تلك الرغبة في الخارج، وبعدها مارست العلاج بالفن، وهو أمر كان غير معتاد هناك، وحققت عدة نجاحات في هذا المضمار، كما ساعدني الانفتاح علي التكنولوجيا والتقنية هناك علي أن أكون من أوائل الفنانين الذين قدموا الفيديو آرت، وساعدني أيضا علي الإضافة من خلال الدمج بين الفوتوغرافيا والتصوير الفوتوغرافي بأن أرسم علي الصور، كما تعلمت هناك تقنيات الطباعة فقدمت أعمالا فنية مطبوعة بتقنية "المونوتيب"، بأن أرسم علي سطح زجاجي بالألوان ثم أقوم مرة أخري بطباعتها، كما ساعدني ذلك علي أن أمد يد العون للفنانين لمصريين الشباب من خلال إتاحة إرسال فنانين للالتحاق بمنح فنية في أكاديمية سالزبورج حيث أدرس الفن هناك، وأيضا من خلال إقامتي لمتحف الكاريكاتير وهو أول متحف من هذا النوع في الشرق الأوسط، ومن خلال مركز الفيوم للفنون. حدثنا عن تجربة "الطريقة التفاعلية"؟ - بدأت العمل علي هذه التجربة منذ سنوات قليلة في الخارج، حينما شغلني التفكير في كيفية تشجيع غير الفنانين علي الرسم والتلوين، فخطرت لي تلك الفكرة، والهدف منها خلق حالة من التفاعل الإنساني بين الفنان والأشخاص الذين يتم رسمهم من ناحية، وبين الأشخاص أنفسهم من ناحية أخري، خاصة أنها تناسب كافة فئات المجتمع، وتكلفتها بسيطة جداً، فهي تعتمد علي الرسم بالفرشاة مستخدمين أي نوع من الألوان، واضعين ستارا أو حاجزا رقيقا من البلاستيك أو الزجاج أو أي خامة شفافة، تجعل هناك تواصلاً بين الفنان والشخص المرسوم، وهذه الطريقة يمكن استخدامها في العلاج النفسي الجماعي. ماذا يمثل لك معرضك الأخير "أضواء المدينة"؟ - معرض "أضواء المدينة" في رأيي تجربة مهمة، فأسلوبه مخالف لما هو متعارف عليه في المدارس الفنية، التي تسعي للرسم والتصوير نهارا معتمدة علي ضوء الشمس، كما تدعو لذلك المدرسة التأثيرية، وما قمت به هو الرسم ليلا اعتمادا علي الإضاءة الصناعية أي عكس التأثيرية، وهي تجربة فريدة أتمني أن يخوضها غيري من الفنانين. كيف تري السياسة في رحلتك الفنية؟ - منذ البداية كنت حريصا علي ألا أكون محسوبا علي مؤسسة أو مكان، بل مستقل قادر علي النقد والمعارضة، ولا يوجد فارق بين الفن وواقع المجتمع، فالفنان فرد من أفراد المجتمع، يشاهد ويسمع ويتفاعل، والفن هو وسيلته يتحدث به ويخرج به انفعالاته. ما رأيك في واقع الحركة التشكيلية حاليا؟ الحركة التشكيلية تعاني حاليا من حالة من الجمود، فلا يوجد ما يربط بين ما تقدمه المؤسسة الثقافية من أنشطة فنية وبين حاجة المجتمع، فنحن لا نحس بوجود مشروع قومي أو هادف من وراء تلك المعارض خاصة الدولية منها، فمثلا عندما كنت عضوا بلجنة الفنون التشكيلية بالمجلس الأعلي للثقافة، وكانت تأتينا خطابات لإقامة معارض مصرية بالخارج، كان دورنا يتوقف فقط علي الموافقة، وترشيح الفنانين، دون أن يكون هناك تخطيط للوصول لهدف أسمي، وعلي العكس من ذلك نجد أنه في إحدي الدول في الخارج تكون ما يسمي برابطة أو تجمع للجاليريهات، يتفقون فيما بينهم علي إقامة معارض، تقوم علي رؤية واحدة، ويسعون من خلالها لهدف واحد محدد.