فيما كنت أتابع نتائج الاستفتاء السويسري المستفز بشأن حظر بناء مآذن جديدة والتي حملت موافقة 57.5٪ علي الحظر، كنت اتابع أيضاً ردود الأفعال هنا في مصر، ولا يمكن في الأجواء المحتقنة أن تجد من يستسيغ كلاماً، في المطلق، عن الديمقراطية والحق في الاختيار، وأحسب نفسي واحداً منهم، فلسنا نعيش في المدينة الفاضلة كما عرج اليها الفيلسوف المسلم الفارابي (أبو نصر محمد الفارابي ولد عام 260 ه/874 م في فاراب وهي مدينة في بلاد ما وراء النهر وهي جزء مما يعرف اليوم بتركستان وتوفي عام 339 ه/950 م بدمشق)، أو جمهورية افلاطون الفيلسوف اليوناني الوثني (عاش بين 427 ق.م - 347 ق.م)، أو المدينة الفاضلة (اليوتوبيا) للسير توماس مور المسيحي (1478 - 1535) . والتي طرحت جميعها تصورات ذهنية لعالم يعيش في سلام تسوده العدالة والرغبة في العيش المشترك، وطردوا من بلادهم بل ومنهم من أُعدم جراء رؤاه تلك. لكننا نعيش في عالم اقترب من حافة الجنون وربما وقع في دائرته، تتنازعه صراعات ونوازع لا نهاية لها ولا منطق يحكمها، ويتبادل نظرات الريبة والشك وتستقر في ذهنيته نظرية المؤامرة، تتقاذفه بيانات ووعيد اسامة بن لادن والحراك المحموم لليمين المتطرف في الغرب، وتغذيه فضائيات التكفير الإسلامية والتشكيك المسيحية الموجهة للناطقين بالعربية. لذلك لم استغرب في مناخ التطرف السائد، والذي اخترق العولمة، أن يخرج علينا من يلوح بإمكانية المعاملة بالمثل وفق آلية الديمقراطية نفسها بمنع اجراس الكنائس في مصر، وكان من بينهم إعلامي وعضو بالبرلمان، بل ذهب آخر إلي القول بأن: السويسريون يتبعون ديانة وثنية لأنهم يعبدون الصليب الذي هو عبادة وثنية لا قال بها المسيح ولا قال بها الله. ولكن هناك أصواتًا عاقلة ومستنيرة أدلت بدلوها لوكالة الأنباء السويسرية swissinfo.ch ، منهم المفكر الإسلامي الدكتور، طه جابر العلواني بقوله: هذه النتيجة ليست مفاجئة. فالإسلاموفوبيا في أوروبا كبيرة جدًا واليمينيون المتطرفون يعتبرون أن هذا نوع من الدِّفاع عن النفس والهُوية الأوروبية، التي لم يستطيعوا تحديدها حتي الآن، ومن ثم فهُم في حالة قلق. وفي كل الأحوال، أقول لمسلمي سويسرا استأنفوا المشوار بهدوء وعَقلانية وقدِّموا تصاميم جديدة وجميلة للمآذن. فهناك أكثر من 20 شكلاً مختلفًا للمآذن في التاريخ الإسلامي؛ فشكلها يختلف في مصر عنه في المغرب والعراق وغيرها من بلاد المسلمين، ومن ثَم، فإنه يجب عليكم أن تقدِّموا عدة تصاميم جديدة؛ فيها ما يرمز لسويسرا. وأقترح أن يعلنوا عن مسابقة للمهندسين لتقديم أجمل تصميم لمئذنة تراعي الخصوصية والحضارة السويسرية. أما عن هذه النتيجة، فلا ينبغي أن تؤثر عليكم؛ لأن المسجد في أول تأسيس له في عهد الرسول صلي الله عليه وسلم، كان أرضا تخطط ليس بها شيء، أما الصفة الأساسية المميزة للمسجد، فهي المِحراب (القِبلة) لكونه محددًا للقِبلة التي يتّجه لها المسلمون في صلاتهم. كما أن هذه النتيجة ليست إلا مؤشرا علي رفض الوجود الإسلامي، ولكن ما دامت المآذن قد تحوّلت إلي رمز ديني وحضاري، فلتتعاملوا معها وِفق هذه النظرة، وأن تُراعوا في الأشكال المقترحة للمآذن "الحضارة السويسرية والرمز الإسلامي"، علي أن يتم تجنّب أية رموز دينية، كالصليب أو الهلال أو غيره من الرموز. وعليكم ان تتعاملوا مع هذه النتيحة بحذر شديد؛ مع تجنّب القيام بأي ردّ فعل غير عاقل، لأنه سيستتبعه ردّ أو ردود فعل أخري منهم، وأن تُبدوا احتراما شديدا لرأي الناخب السويسري، مهما كانت النتيجة، فهذا رأيه ويجب ان يحترم مهما اختلفتم معه؛ غير أنني أؤكِّد أنه يجب أن ينطبع في أذهان الأجيال الجديدة والقادمة في سويسرا، أن المسجد موقع ومركز إشعاع حضاري ومركز للخدمات الاجتماعية ومكان لتقوية الحوار مع أصحاب الديانات الأخري. ووفقاً لنفس المصدر قال فضيلة الدكتور علي جمعة، مفتي حري بهذه النتيجة أن تنبّهنا إلي حقيقة المخاوِف المهملة ومشاعر القلق الكامنة التي تجاهلها صنّاع القرار علي نحو غير كافٍ، ونوصي بأن يتصدّر تحدّي بناء مجتمعات حقيقية قادِرة علي دمْج التنوع والاختلاف بشيء من الانسجام قائمة الأولويات في كل مكان، ونحن مستعدّون لتقديم كامل الدعم لهذا الجهد"، وأضاف إن سويسرا تميزت بقدرتها علي ضمّ أجناس مختلفة ثقافيا، وهذا واضح كل الوضوح في لُغاتها الرسمية الأربع. كما تنص المادة 15 من الدستور السويسري علي أن: "حرية الاعتقاد والفلسفة، مكفولة. فكل واحد له الحرية في اعتناق الأديان والعقائِد وأن يمارسها، سواء كان وحيدا أو داخل جماعة. وللجميع الحق في الانضمام لأي جماعة دينية وأن يتبع التعاليم الدينية. ولا يجوز إكراه أحد علي الانضمام لجماعة دينية أو ممارسة شعيرة دينية أو اتباع تعاليم دينية بعينها"، هذا الحق الدستوري لم يتغير وعلي الجميع أن يتذكّر ذلك". فيما يري المفكر الإسلامي السعودي الدكتور مسفر القحطاني، في تصريحه للوكالة السويسرية، أن هذه النتيجة من وجهة نظري، ليست فوزا كاسحا أو دليلا قاطعا لتوجّه المجتمع نحو حظر بناء المآذن، بل هي في حقيقتها تؤكِّد وجود نِسبة كبيرة من الناخبين السويسريين ترفُض مبادرة الحظر وتُقر بحقّ المسلمين في بناء المآذن. وأضاف ينبغي للجالية المسلمة في سويسرا خصوصا وفي أوروبا عموما، أن تراعي الذِّهنية الأوروبية التي تعيش هذا القلق، وتقدِّر احترام المؤسسات الرسمية ولا يجدر بهم مواجهة هذا القرار في مقابل الحجم الكبير من الحريات والحقوق الأخري. وأوضح أن المآذن ليست في الشريعة بأولوية، فلا ينبغي اليوم أن تكون أولوية نُراهن عليها أو نغامِر من أجلها، في مقابل فقد أو خسارة مُكتسبات طويلة من العمل الإسلامي. والتحدِّي الحقيقي، هو أن تقبل الجالية قرار المجتمع السويسري وتحترم الديمقراطية الحرّة التي اختارها الشعب وتبدأ في تغيير الصورة النمطية لدي الحاظرين لبناء المآذن من خلال حُسن التعامل وحضارية الإسلام وسُمو أفكاره وقِيمه. ويبقي السؤال وقد عرضنا التباين بين تأجيج المشاعر الطائفية وبين الأصوات المستنيرة، أي منهما مرشح للتفعيل في الشارع المصري المحتقن ابتداء؟ ، وما هي التداعيات المرتقبة وفقاً لها؟، وهل يبقي حكماء الوطن علي الجانبين في مقاعد المتفرجين والمتابعين وحسب، أم عليهم التحرك الإيجابي لتفريغ شحنات الغضب الشعبوي بفعل فاعل، من خلال آليات الإعلام المختلفة ، فنحن مصريون قبل الأديان ومصريون في ظل الأديان، ومصريون للأبد، وتأكيد ذلك يتحقق من خلال تكريس ثقافة الدولة المدنية وتفعيل مبدأ المواطنة فبهما نواجه رياح التطرف وموجات التعصب وسعير الطائفية التي تحملها لنا دعوات أطياف من الغرب السياسي أو الغرب الجغرافي .