يرصد الدكتور محمد عبد المطلب تجربة شعراء السبعينيات المثيرة للجدل التي اتخذت التمرد شعارا لها في كتابه "شعراء السبعينيات وفوضاهم الخلاقة" الصادر عن المجلس الأعلي للثقافة. يؤكد عبد المطلب أن الشعرية العربية طوال تاريخها لم تعرف الجمود، وكانت تجدد نفسها تضيف إليها أو تحذف منها أو تعدّل فيها لتتوافق مع ظرفها التاريخي والحضاري، ولعل هذا ما دفع الدارسين إلي تقسيم الشعرية العربية إلي عصور: "الجاهلية" و"صدر الإسلام" و"الأموي" و"العباسي" و"المملوكي" و"العثماني" و"الحديث". ويكشف عبد المطلب عن أن كل مرحلة من المراحل التي مر بها الشعر علي مدار تاريخه كانت رد فعل لما سبقها، أما حركة السبعينيات فلم تعتمد (رد الفعل)، وإنما اعتمدت (الفعل) ورفعت شعارها المنادي بضرورة إحداث انقلاب شعري ، وتصدر شعراء السبعينيات حركة الهجرة من قصيدة التفعيلة إلي قصيدة النثر، وانقسم هذا الجيل إلي حلفين الأول: حلف (إضاءة 77) ويضم حسن طلب وحلمي سالم ورفعت سلام وجمال القصاص، ثم لحق بهم أمجد ريان وماجد يوسف ومحمد خلاف ومحمود نسيم ووليد منير. والحلف الآخر هو حلف (أصوات) ويضم أحمد طه وعبد المنعم رمضان وعبد المقصود عبد الكريم ومحمد سليمان ومحمد عيد إبراهيم، وقد خرج من الحلف الأول بطن يضم: رفعت سلام وشعبان يوسف ومحمود نسيم، وكان لكل حلف مطبوعته التي تحمل اسمه وتذيع أعماله الإبداعية وعقيدته الجمالية. وأشار إلي تحول مبدعو السبعينيات إلي نقاد قساة لا يعرفون إلا النفي انطلاقا من عقيدة: أن وجود (الأنا) رهن بنفي (الآخر) ونشيت حرب مع الأجيال السابقة وقال بعضهم: إننا جيل بلا أساتذة. وقد سبقت هذه الفوضي الخلاقة نوعا من الغموض الذي غطي نصوصهم بنوع من الضبابية، وأصبح علي المتلقي أن يخلق لنفسه إشاراته التي تقوده إلي ركائز الدلالة وهذا الإرهاق في التلقي شرط لاستقبال النص السبعيني، وانحاز الخطاب السبعيني إلي الغموض الخلاق الذي ملأه بكم وافر العتمة لكنها (عتمة مضيئة) تضيء للمبصرين لا لفاقدي البصر أو البصيرة. وقد تعاملوا مع اللغة من منطلق جديد لأنهم رفضوا النظر إليها باعتبارها عنصرا مشتركا يربطهم بالمتلقي، ونظروا إليها بوصفها جسدهم الذي يمتلكونه دون شريك ونفروا من علم النحو، وعبر عن هذا التعالي علي اللغة مقولة عبد المنعم رمضان: أحب تلك الكتابة الحسية، سواء كانت قصيدة أو قصة أو خطابا أو أغنية راعية أو نشيد عرس، أميل إليها لأن الجسد هو الزائل الذي نفكر بالكتابة أن نحفظه من الزوال .. لأنه يخصنا وحدنا. كما تمردوا علي الموسيقي العروضية وكأنهم يرددون مقولة أبي العتاهية : نحن أكبر من العروض، وانتهي هذا الموقف باعتماد إيقاع بديل يختص بقصيدة النثر وهو ما يعني أن الفوضي التدميرية انتهت إلي فوضي خلاقة. ويلفت عبد المطلب إلي أن السبعينيين عندما هجروا العروض، هجروه بوعي جمالي، حيث لو صح أن العروض هدف لكانت (ألفية ابن مالك) أعظم عمل شعري في العربية، فالعروض مهمته توليد الإيقاع، سواء كان ذلك بالتفاعيل، أو بسواها من الأدوات المنتجة للإيقاع. وخرج السبعينيون علي المنجز الحداثي في اعتماد (المتلقي) بوصفه شريكا في الإنتاج، فقد استبعدوه من حسابهم مبررين ذلك بحرصهم علي أن يكونوا صادقين مع أنفسهم أكثر من صدقهم مع الآخر، بل أن بعضهم أوغلوا في هذا الطريق، حتي أقدموا علي صدم الآخر في بعض ركائزه العقيدية والثقافية. قاد رفض السبعينيين -ومعهم الحداثيين- للصفاء اللغوي إلي إحساسهم بأن مفردات اللغة استنفدت طاقتها الدلالية من طول الاستعمال، ومن ثم سعوا إلي هجر هذا المعجم المستهلك وقفزوا إلي (التداولي)، لكن المفاجأة أن هذا التداولي قد أصابه ما أصاب الصافي، بل ربما كان أكثر منه إرهاقا لالتحامه بالمدرسة الحياتية اليومية. وجاء الخروج من هذا المأزق اللغوي بتصعيد التداولي إلي أفق الصافي، بزرعه في سياق يكسبه صفة البكارة المصنعة بمهارة، حتي لا يكاد المتلقي يتنبه إلي هذا التصنيع، وكل ما يدركه أنه في مواجهة إبداع يلتحم فيه الصافي بالتداولي دون فرق. وجاءت هزيمة 1967 لتكون بمثابة الضربة الشاملة للجميع بما فيها السلطة ذاتها ومشروعها الوطني والقومي، ومن ثم كان الترنح علي حافة الدمار الذي دافعا إلي كثير من الفوضي الهدامة، وبرغم أن نصر 1973 قد حاصر بعض ظواهر هذه الفوضي، فإن الحصار لم يطل نتيجة للتغيرات التي هزت المجتمع الذي امتزجت فيه الخيبة بالأمل ، والعجز بالصمود.