الكتابة أنواع، وكذلك القراء! نعم الكتابة أنواع وأشكال وألوان، هناك كتابة جادة تحترم العقل وتضيف إليه الكثير من العلم والفكر والأدب أيضًا. وهناك كتابة مسلية لطيفة تسليك وتزغزغك وتبسطك أيضًا لكن بذوق وبدون قلة أدب أو استظراف! وهناك كتابة فضائحية تخاصم عقلك وضميرك ولا تخاطب إلا غرائزك وشهواتك التي لا تنتهي! ولا بأس وليس هناك مانع أن تكون الكتابة جادة جدا ورصينة جدا لكن يتخللها بعض الحكايات والمواقف المسلية ذات الدلالة! الكاتب المفكر والمثقف الوزير أمين هويدي رحمه الله كان من هذا الطراز، فهو كاتب جاد رصين، لكن أسلوبه السلسل البسيط الذي يتضمن أحيانا مفارقات كوميدية وحكايات مسلية تخفف من جفاف الفكرة لكن لا تقلل من عمقها أو جديتها! ولعل كتابه البديع 50 عاما من العواصف: ما رأيته قلته خير مثال علي ما أقول.. الكتاب يروي سيرة أمين هويدي ومشوار حياته طيلة نصف قرن من العواصف السياسية والعسكرية والأمنية. يقول أمين هويدي: أنا لا أخاف شيئًا في العالم إلا من الفأر ولذلك فحينما وجدتني في الزنزانة رقم 8 في سجن القلعة حينما زج السادات بي في السجن ضمن ما عرف بمجموعة 15 مايو 1971 وكنت أرتعد من احتمال وجود الفئران في الزنزانة؟! وكنت أراها تجري في سقف الزنزانة وهي كبيرة الحجم كالأرانب إلا أن سقفا من السلك كان يحول دون المواجهة. ماذا يحدث لو انقطع السلك وتساقطت الفئران؟! احتمال أرقني ودعوت الله ألا يحدث، واستجاب الله لدعائي حتي نقلت من سجن القلعة إلي السجن الحربي! كان خوف أمين هويدي يعود إلي طفولته وإلي يوم دراسي له في المدرسة الأولية عندما اصطحبه والده إليها، وكان الطفل أمين يتصور أن والده سيبقي معه، لكنه تركه ومضي وانفجر الطفل في الصراخ وحاول الناظر إسكاته دون جدوي فلما نفد صبره نادي علي الفراش وأمره بأن يرميه في غرفة الفئران وكانت حجرة نصف مظلمة وأقفل الباب بالمفتاح وتركوه وحيدا وهو يصرخ وكما يقول: لم أشعر بالفئران أو غيرها لأنني فقدت الوعي! وبصدق وصراحة يقول أمين هويدي عن شهادة التوجيهية التي حصل عليها عام 1938 القسم العلمي: كنت من الناجحين بمجموع 50٪ يعني علي الحركرك لم أرسب قط ولكن كنت أنجح دائما بمجموع متواضع، حينما أسمع أحفادي الآن وهم يتحدثون عن مجاميع 98٪ أو 105٪ أتعجب! أحيانا لا يحصل الولد أو البنت منهم إلا علي 95٪ فأتظاهر بالغضب وأراهم يتبادلون الابتسام! لماذا يبتسمون؟! فيقول الولد للبنت أو البنت للولد: تقول ولاّ أقول؟ ومن يقع الاختيار عليه ليقول يتحدث في جد: إننا نصر علي الحصول علي مجاميع قليلة حتي نصبح وزراء.. مش حضرتك بتقول لنا إنك كنت بتحصل علي مجموع علي الحركرك.. إلا يا جدي الحركرك معناها إيه؟! ولا ينسي أمين هويدي أبدا العبارة التي قالها له الضابط في الكلية الحربية: اجري بالخطوة السريعة! ويعلن أمين هويدي: ومن يومها وأنا أجري بالخطوة السريعة! سألني أحد الزملاء أخيرا: إنت ملاحظ من يوم دخولنا الحربية بنجري بالخطوة السريعة! وأمنت علي كلامه لأنني وقد تخطيت الثمانين عاما ما زلت أجري ولو قطعت أنفاسي! من الأشياء اللافتة للانتباه في مشوار أمين هويدي التحاقه بمعهد الصحافة وكان ذلك بعد قيام الثورة، وكان في نفس الوقت مشغولا برئاسة قسم الخطط، المهم وكما يقول: حل امتحان معهد الصحافة وقت تنفيذ خطة التخفيف عن سيناء فلم أحضره، ولذلك رسبت في الامتحان بجدارة، كانت مدة الدراسة به ثلاث سنوات ولكني تخرجت فيه بعد خمس سنوات لدواعي العمل! أذكر أن أحد الأساتذة عرض إعداد دراسة كاملة تقدم باسمي للحصول علي الدكتوراه مثل فلان وفلان وفلان، ولكن رفضت شاكرا حتي لا أكون مثل فلان وفلان وفلان! كان أمين هويدي شاهدا علي قيام الوحدة بين مصر وسوريا كما كان سفيرا لمصر في الرباط ثم بغداد، وأثناء ذلك وقعت محاولة الانقلاب علي الرئيس العراقي عبدالسلام عارف، بل سمع أمين هويدي بأذنه من يردد بأنه هو الذي دبر الانقلاب، وبعد فشل الانقلاب بأيام التقي أمين هويدي بالرئيس العراقي في مكتبه بالقصر الجمهوري. يقول أمين هويدي إن الرئيس عارف قال له: الذي أكد له حدوث الانقلاب كان إحدي السيدات، إذ زارته قبل سفره وقصت عليه حلما مزعجا بالنسبة له، إذ رأته يسبح في نهر دجلة وظهرت عليه علامات التعب بحيث أوشك علي الغرق، وفجأة رأت كوخا ينصب فوق الماء وهو يحاول عبثا أن يتمسك به، وإذ برجل يلبس ملابس بيضاء ينتشله من الماء وظهر إنه النبي عليه السلام كان الرئيس عارف يؤمن بالأحلام وقص علي الكثير منها في المناسبات المختلفة. ولما علم بخبر المؤامرة رأي في غفوة نوم أقرب إلي اليقظة كافة تفصيلات المؤامرة، ونقلها كما حدثت لمرافقه العميد زاهد قبل وصول أي تفصيلات عن الموضوع، وظهر أن ما أملاه كان مطابقًا لما كان يرد من معلومات. وكان أخطر ما قاله الرئيس العراقي لأمين هويدي هو قوله بالحرف: إنه تعب من أهل العراق الذين قتلوا الحسين وأخذوا يبكون عليه.. ولعل مفاجأة المذكرات وهو ما توقفت طويلا أمامه هو قوله: إن انتصار السادات في أحداث 15 مايو 1971 كان لصالح مصر، إذ كان أقدر علي مواجهة الظروف الصعبة التي كانت تمر بها البلاد سواء في الداخل أو الخارج. ويبقي الكثير في مذكرات أمين هويدي مما يستحق القراءة!