كان تحرك اسقف التعليم الشاب 39 سنة حين رسم اسقفاً يتجه تصاعدياً باتجاه مزيد من الشعبية، اذ تكاد صورته تتطابق مع الصور الذهنية لرجال وقديسي الكنيسة في قرونها الأولي، فهو متقشف ومتواضع وبشوش، جسده النحيل يترجم صورة الراهب الزاهد، غزارة كلماته وبساطتها تجد طريقها الي القلوب قبل العقول، وفي واحدة من احتفاليات رسامته قال إنه لم يكن يسعي للأسقفية بل باغته البابا كيرلس بوضع يده عليه فأسقط في يده، وفي مرة ثانية قال إن الذي كان أحق منه بهذا الموقع هو صديقه الأنبا غريغوريوس الذي رسم فيما بعد اسقفاً للبحث العلمي ومعهد الدراسات القبطية، أي نموذج هذا الذي يعيد لنا نسق الآباء الأولين الذين كانوا يهربون من المواقع المتقدمة ويقدمون بعضهم بعضاً في الكرامة؟. لكن المتربصين بالنجاح أشاعوا ان اختيار الانبا غريغوريوس كان محاولة من البابا كيرلس لتقليص صلاحيات اسقف التعليم بعد ان تجاوز خطوطاً عديدة، وبعد أن جاءته شكاوي من اساقفة بعض الايارشيات بأن اسقف التعليم يفرض نفسه علي ايبارشياتهم ويلتقي بشبابها بغير استئذانهم، ويقعوا هم في مشاكل عديدة مع رعيتهم كنتيجة لمقارنة ليست في صالحهم مع الاسقف المستنير والمفوه، بل يواصلون أن هناك من نقل للبابا أن الاسقف يتهكم عليه في لقاءاته الخاصة ويتندر علي منهجه الرعوي، ورددوا ان ملاحظات من جهة سيادية وصلت للبابا بأن الاسقف يتعرض لأمور سياسية تتعارض مع التوجه الرسمي ويجب "فرملته" وهذه النوعية من الوشايات والأقاويل موجودة في كل العصور وإن اختلفت اشكالها. في غضون هذه الفترة يتخذ البابا كيرلس السادس قراراً بعودة اسقف التعليم الي الدير ويبقي هناك حتي اشعار آخر، وهو الأمر الذي افردت له مجلة الكرازة عددها الاخير قبل توقفها الاول عن الصدور بقلم رئيس التحرير الانبا شنودة اسقف التعليم اختتمته بكلمة للأسقف يقول فيها: لقد اضطررت ياإخوتي القراء أن أكلمكم بصراحة بعد صمت طويل، حتي تتدبروا الأمر معنا في مصير كليتكم الإكليريكية.. أما أنتم ياإخوتي الإكليريكيين، فإن كان بسببي قد حدث هذا النوء العظيم عليكم، فأنا مستعد أن أبتعد لكي تهدأ الأمور، أنا مستعد أن أرجع إلي الدير، إلي مغارتي المحبوبة في الجبل، أقضي بقية أيام غربتي هناك، وأريح واستريح "ويكفي اليوم شره" أما الإكليريكية فهي، كأي عمل من أعمال الله لابد أن تصطدم بصعوبات ومعوقات، وكأي عمل من أعمال الله لابد أن تنتصر علي الصعوبات والمعوقات. ثم ترد عبارة {ربنا موجود} في برواز كبير، عقب هذه الكلمات وقبل توقيع الكاتب "شنودة أسقف المعاهد الدينية والتربية الكنسية". كانت الأزمة بحسب رواية المجلة متعلقة بالممارسات الكنسية الرسمية المضيقة علي الكلية الإكليريكية، عبر خطابات رسمية موجهة من الديوان البطريركي لكل من : أسقف التعليم (أنبا شنودة)، وأسقف الدراسات العليا (أنبا غريغوريوس)، تعلنهما بأن البطريركية لا يمكنها الاستمرار في الصرف مستقبلاً علي الكلية الإكليريكية ومعهد الدراسات القبطية ومعهد ديديموس، لذا فعلي تلك الجهات تدبير مصادر للتمويل من خلال تشكيل لجنة مالية تتصل بالقادرين وبالأباء المطارنة والأساقفة، فضلاً عن فرض رسوم علي الطلبة خاصة الإكليريكية ومنع المبيت فيها للقسم الداخلي وإلغاء وجبات الغذاء للطلبة!!، وتعرض المجلة صور الخطابات تلك، وتسبقها وتزيلها بآيتين من الكتاب المقدس تعبران عن مشاعر الكاتب: "إبهتي أيتها السموات من هذا، واقشعري وتحيري جداً" إر 2 : 12، والرب أصغي وسمع، وكتب أمامه سفر تذكرة " ملا 3 : 16 وقد جاءت المقالة المنشورة في باطن الغلاف الأول لذات العدد من المجلة تحمل استغاثة بالله من ذلك الموقف الديواني، بعنوان "ربنا موجود" تقول بعض سطورها: "أرنا يارب رحمتك، اثبت وجودك. لماذا يعيروننا قائلين أين الرب إلهكم؟! لماذا تنتظر حتي الهزيع الأخير من الليل، والتلاميذ مضطربون في السفينة والأمواج شديدة ؟! نعم .. لماذا تنتظر، بينما يقول الكتاب أنك تأتي ولا تبطئ؟!.. ها نحن يارب ننتظر.. فاعمل يارب إذن، اعمل من أجل محبتك للعدل وللصلاح، من أجل أن يطمئن الناس فيسلموا حياتهم في يديك.. وهم ينشدون "الرب يقاتل عنكم وانتم تصمتون". ويبدو أن الأزمة كانت قد بدأت قبل شهور، فقد جاءت مقالة غلاف العدد الأسبق سبتمبر 1967 تحمل رسالة وأنينا مبطنين، بعنوان "العاملون مع الرب"، يستهله الكاتب بقوله: يكفي أن يتيقن الإنسان أنه يعمل مع الله، ثم بعد ذلك لا يليق به أن يعول هما. الله الذي يعمل معه هو سيدبر كل شيء.. ثم يؤكد: نحن لا ندافع عن أنفسنا.. ولا نعول أنفسنا.. ولا نحرس أنفسنا.. نحن مجرد آلات في يديه، إننا نعمل عمله.. هو يعمل فينا.. وبنا.. ومعنا. ويتأكد هذا الأنين في افتتاحية ذات العدد بعنوان "أهمية الإكليريكية بالنسبة للكنيسة" والتي تستعرض تلك الأهمية عبر التاريخ، لتنتهي بفقرة : وبعد .. إن الإكليريكية تجتاز حالياً أزمة شديدة لم تشهدها منذ تأسيسها وإننا نركع أمام أرواح جميع القديسين الذين أداروها والذين تخرجوا فيها، ونركع أمام روح أبينا ومعلمنا الأرشيدياكون حبيب جرجس مؤسسها في عصرها الحديث، طالبين شفاعتهم جميعاً من أجل الكلية التي هي معهدنا اللاهوتي. وينهي الكاتب مقالته بجملة بعرض الصفحة "صلوا من أجل الإكليريكية"!. ويري من عاصروا هذه المصادمة، أن للقصة جذورا.. فقد دأبت مجلة الكرازة في إصدارها الأول ومنذ أول عدد لها يناير 1965 علي إحياء طرح أجندة الإصلاح التي كان يتبناها شباب مدارس الأحد قبلاً (1947 1954) الأمر الذي اعتبره البابا كيرلس السادس ومشيروه هجوماً علي الكنيسة ونقداً لسياساتها، وتأليباً للشباب عليها وعلي قياداتها، ونشراً لغسيل لم تكتمل نظافته بعد!!، خاصة من أسقف قريب من البابا تتلمذ علي يديه منذ أن خرج طالباً الرهبنة!!، والمسافة بينهما ليست بعيدة، وأبواب البابا مفتوحة حتي للعامة. ويقولون إن هناك رسائل بهذا المعني من البابا كيرلس كانت تبعث للمجلة لكنها لم تجد قبولاً منها، فاضطر البابا البطريرك لانتهاج منهج الضغط، من منطلق أنه كيف يستساغ أن تصرف الكنيسة علي من يهاجمها كل يوم وبضراوة، ويدللون علي ذلك بأن عودة أسقف التعليم كانت مشروطة بعدم إصدار المجلة، وهو ما حدث بالفعل، إذ لم تعاود الصدور بعد عدد الأزمة اكتوبر 1967 إلا بعد اختيار وتجليس اسقف التعليم بطريركاً وبابا للكنيسة، كانت العودة بعدد يناير 1972 ومازال للقصة بقية