المصريالمتتبع للتحليلات السياسية العربية التي تتعرض لمسلسل تدهور العلاقات التركية الإسرائيلية يدهشه أن يلاحظ استبشاراً يتوقع انتقال أنقرة من جبهة التعامل الدبلوماسي والسلمي المتحالف مع تل أبيب، إلي خندق التنافر والتضاد وربما القطيعة والعداء.. وهذا كما تجمع غالبية التقارير الأوروبية "هراء وتجديف وتوقع علي غير ما أساس".. إسرائيل تُدرك تماماً مزايا وأهمية علاقاتها المتعددة المستويات مع تركيا منذ عام 1949 خاصة في جانب الملفات الأمنية يأتي علي رأسها مستقبل علاقاتها مع كل من سوريا وإيران حيث لتركيا حدود مشتركة مع كل منهما.. إسرائيل تعرف حجم مبيعات أسلحتها إلي القوات المسلحة التركية خاصة سلاحي الطيران والبحرية بالإضافة إلي ما توفره لأجهزتها الأمنية من معلومات.. المؤسسات المالية والاستثمارية الإسرائيلية في تركيا توازي تقريباً عدد المؤسسات العربية المماثلة لها.. إسرائيل تَعرف مدي حاجة تركيا إليها علي صعيد علاقة أنقرة مع الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي.. ولذلك هي ليست علي استعداد للتفريط فيها والتسليم لرئيس الوزراء رجب طيب أردوغان بالقدرة علي تشكيل علاقات بلاده مع دول الجوار علي وجه التحديد علي حساب أمنها وحساب مخطط سياساتها في المنطقة.. وحتي عندما يلقي زعماؤها السياسيون بمسئولية هذا التدهور علي كاهل أنقرة ويصفون أردوغان بأنه "بؤرة التوتر معها"، أو يهدد بعض ساساتها ببث مجموعة أفلام وثائقية تفضح المذابح التركية ضد الأرمن، أو تنذر لجان العمال في عدد من شركاتها ومراكزها الإنتاجية بمقاطعة السياحة في تركيا.. فهذا من قبيل التهويش ليس إلا.. هناك الكثير من المؤثرات التي شوهت صورة إسرائيل علي المستويين الشعبي والرسمي في تركيا مما جعل حكومة أنقرة تتخذ موقفاً حاداً تجاه ممارساتها في المنطقة ككل، منها الغارة التي شنتها طائرات حربية إسرائيلية ضد قرية دير الزور السورية ونتج عنها أن ألقت بصهاريج الوقود المستعملة داخل أراضيها!! ومنها حرب إسرائيل العنصرية ضد سكان قطاع غزة !! ومنها أيضا حرمانها من المشاركة في مناورات نسر الأناضول العسكرية لأول مرة منذ ست سنوات.. لكن الأمر لم يصل بعد إلي بوادر القطيعة التي يجزم البعض أنها آتية لا ريب فيها.. حكومة أردوغان لا تملك مقومات الاستغناء عن تطلعاتها نحو عضوية الاتحاد الأوروبي وليس في مقدورها التضحية بعلاقاتها مع الولاياتالمتحدة ولا بمزايا انتسابها إلي حلف الناتو ولا تستطيع أن تضرب عرض الحائط بالثمار التي توشك ان تجنيها من جراء تحسين علاقاتها مع دول الجوار القزوينية، وفي المقابل ليس بين يديها ضمانات مؤكدة لما ستحصل عليه وراء تقوية علاقاتها مع سوريا وإيران.. لكنها تعي تماما حاجتها للخروج من مأزقها الراهن مع الحكومة الإسرائيلية إذا ما رأي فيه جنرالات المؤسسة العسكرية "حماة الجمهورية دستوريا" تهديداً مباشر لمصالح البلاد "الأمنية السياسية القومية".. في تبرير إلغاء مشاركة إسرائيل في المناورات العسكرية قال وزير الخارجية التركي أحمد داود أغلو إن السبب يرجع إلي مماطلة تل أبيب في تسليم باقي العشر طائرات مطورة بلا طيار من طراز "هارون" التي تعاقد عليها البلدان وتسلمت منها أنقرة طائرتين فقط في نوفمبر 2008 بالرغم من أنها سددت ثمنها (180 مليون دولار) بالكامل!! وقال إن المراسلات بين وزارته ووزارة خارجية اسرائيل لم تتوقف "لإيجاد حلول للمسائل العالقة بين الطرفين ولإعادة علاقاتهما الثنائية إلي مسارها الصحيح".. ولما سارعت وسائل الإعلام الإسرائيلية إلي إدانة حكومة أردوغان ووصفتها بأنها تعمل علي هدم فرص السلام في المنطقة و أنها تعمل علي إحياء مظاهر الامبراطورية العثمانية وتسعي لفرض هيمنتها علي منطقة الشرق الأوسط الكبير.. الخ.. لم تعرها انقرة أهمية.. إسرائيل ستعمل علي استعادة مستوي علاقاتها المتميز بتركيا، لأنه لا يوجد لها حليف استراتيجي في المنطقة منذ أن فقدت الحليف الإيراني عام 1979 .. وإن كانت قد أخطأت في قراءة الرسائل التي بعثت بها حكومة أردوغان بعد قرار نتانياهو بالاستغناء عن دورها الوسيط مع سوريا، إلا أنها ليست علي استعداد لمواصلة تجاهل تأثيراتها.. وإذا كانت إسرائيل قد استخفت مؤخراً بوزن أنقرة الاقليمي عربيا وبتنامي علاقاتها مع سوريا وإيران ولم تضعه ضمن حساباتها، فليس هناك ما يدل علي أنها مستعدة لإلقاء تحالفاتها الراسخة معها في بئر النسيان أياً كانت الأسباب.. وسائل الإعلام الإسرائيلية التي تصف ما يجري في أنقرة بأنه "لحظة جنون أصابت تركيا بقيادة أردوغان"، وتهدد بعرض أفلام وثائقية تدين دور قواتها المسلحة في أرمينيا، وتتنبأ برد صفعة حرمانها من المشاركة في المناورات العسكرية بأشد منها.. تطالب نتانياهو بأن يتدبر أمره معها لأن إسرائيل تحتاج إليها أكثر من حاجتها هي إليه ، بعد أن خفتت مناكفة بعض الدول الأوروبية تجاهها علي إثر مباركة الرئيس أوباما والمفوضية الأوروبية اتفاقية تطبيع علاقاتها مع أرمينيا بعد عقود من العداء المستحكم..