بعد أيام، في الخامس والعشرين من أكتوبر الجاري، ستكون تونس علي موعد مع انتخابات رئاسية وتشريعية جديدة. يتنافس في الانتخابات الرئاسية الرئيس زين العابدين بن علي مع ثلاثة مرشحين آخرين هم السادة: محمد أبو شيحة الأمين العام لحزب الوحدة الشعبية وأحمد الإينوبلي مرشح حزب الاتحاد الديمقراطي الوحدوي وأحمد إبراهيم مرشح حركة التجديد (الحزب الشيوعي سابقا). وتخوض الانتخابات التشريعية تسعة احزاب فيما هناك قوائم خاصة بالمستقلين. ويبلغ عدد هذه القوائم نحو خمس عشرة. تعكس هذه الصورة السعي الدءوب إلي تكريس التعددية في هذا البلد الذي استطاع تفادي السقوط فيما سقط فيه آخرون، أي في فخ التطرف أو المزايدات الفارغة التي لا تطعم الشعب خبزا بمقدار ما تزيده جهلا. بقيت تونس منذ الاستقلال في العام 1956 واحة سلام وأمن وطمأنينة واعتدال. بقيت خصوصا بلدا يدعو إلي تغليب المنطق علي الانفعال والتهور في كل ما من شأنه خدمة القضايا العربية. في النهاية، لم تجد منظمة التحرير الفلسطينية مكانا تنتقل إليه بعد حرب لبنان في العام 1982 سوي تونس. ما قد يكون أهم من ذلك، أن تونس تتحدث لغة العصر. الدليل علي ذلك البرنامج السياسي الذي طرحه بن علي في مناسبة افتتاح الحملة الانتخابية في الحادي عشر من الشهر الجاري. تضمن البرنامج أربعة وعشرين محورا تغطي كل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بهدف تحسين أوضاع المواطن العادي وتمكين تونس من الانتقال إلي مصاف الدول المتقدمة. تونس، وهي ليست دولة نفطية، تقارن نفسها بالضفة الأخري من المتوسط، الضفة الأوروبية، وهي تراهن علي العلم والتكنولوجيا المتطورة لتحقيق قفزة نوعية إلي الأمام. لا وجود في تونس لعقد من نوع عقدة تعلم اللغات الأجنبية واتقانها أو الاستفادة من تجارب ناجحة بدل الغرق في الشعارات والتقوقع... في تونس، يرشح زين العابدين بن علي نفسه طالبا ثقة الناس به مستندا إلي لغة صار المواطن العادي يفهمها جيدا، كما صار يدرك أنها ضمانة للتقدم والازدهار الحقيقي. تقوم هذه اللغة علي الحديث عن الشباب ودوره علي كل الصعد. ليست صدفة أن القيادة الجديدة للحزب الذي يرأسه بن علي، وهو التجمع الدستوري الديمقراطي، ضمت نسبة كبيرة من الشباب من الجنسين في أعقاب المؤتمر الأخير للحزب الذي انعقد قبل بضعة أشهر. وليست صدفة أن يتضمن البرنامج الانتخابي للرئيس كلاما مستندا إلي الأرقام يعكس الاهتمام بكل ما له علاقة بالعلم والثقافة ونشر التكنولوجيا الحديثة، خصوصا استخدام الإنترنت. كان يمكن القول إن كل هذا الكلام مجرد كلام للاستهلاك الانتخابي وأن ما يقال اليوم، في مناسبة افتتاح الحملة الانتخابية، لا علاقة له بما سيحدث بعد الانتخابات. ولذلك، تكمن أهمية التجربة التونسية في أنها تختلف عن غيرها من هذه الناحية. فقد تبين منذ وصول زين العابدين بن علي إلي السلطة في العام 1987 أن هناك محاولة جدية لبناء دولة المؤسسات استنادا إلي رؤية واضحة لا تتعارض مع ما تحقق بين العامين 1956 و1987 أي عندما كان الحبيب بورقيبة في السلطة. لم يحصل طلاق مع الماضي. علي العكس من ذلك، كان هناك تطوير للتجربة التونسية ومحاولة جدية لتفادي أي أخطاء يمكن أن تكون قد حصلت في عهد بورقيبة، بما في ذلك خطأ التهاون مع التطرف أو معالجته بالوسائل الأمنية وحدها بطريقة أقل ما يمكن أن توصف به أنها فظة. كان لا بدّ من معالجة في العمق لهذه الظاهرة. وهذا ما نجح به الحكم الجديد في تونس الذي أدرك باكرا أن أي تهاون مع التطرف لا بدّ أن يقود إلي كارثة... حتي لو لعب المتطرفون دور المعتدل المطالب بالديمقراطية. لا مكان للاحزاب الدينية المتطرفة في تونس، خصوصا بعد لجوئها إلي الإرهاب بهدف واضح كل الوضوح يتمثل في ضرب كل ما هو حضاري في البلد بدءًا بحقوق المرأة ووضعها الاجتماعي... وانتهاء بالسياحة. لغة الأرقام هي التي تتكلم في تونس. لم يقض النمو السكاني علي أي احتمال لتطوير الاقتصاد والمجتمع، كما حصل في سوريا علي سبيل المثال وليس الحصر. كان عدد سكان تونس في العام 1970 مماثلا لعدد سكان سوريا. هناك الآن عشرون مليون نسمة في سوريا وعشرة ملايين نسمة في تونس. لم يكن هناك تراجع علي صعيد تطوير البرامج التربوية. كان هناك اصرار علي مواكبة العصر. لم يحصل تراجع في مجال حماية حقوق المرأة علي الرغم من كل الحملات التي شنها المتخلفون علي تونس من داخل البلد ومن خارجه. والأهم من ذلك كله، أن التطور الاقتصادي الذي سمحت به عملية تطوير الثورة البشرية أدت إلي توسيع الطبقة المتوسطة. صارت هذه الطبقة العمود الفقري لتونس. ولذلك عليها أن تدافع عن مصالحها المرتبطة بالتقدم والازدهار والحداثة والانفتاح علي العالم. ما الذي تحتاجه تونس الآن؟ لا شك أن هناك حاجة إلي تطوير الحياة السياسية. كذلك هناك حاجة إلي تطوير الإعلام التونسي، خصوصا علي الصعيد الداخلي بعد النجاح الذي حققه هذا الإعلام خارجيا. الجانب الإيجابي في كل ذلك أن هناك وعيا لهذين الأمرين. لذلك ركز زين العابدين بن علي في برنامجه الانتخابي علي أهمية الإعلام داعيا إلي "تطوير أداء الإعلام وتنويعه ليكون مرآة تعكس التعددية الفكرية والسياسية". تختصر هذه العبارة الكثير وتختصر خصوصا نوع التحديات التي تواجه تونس في السنوات الخمس المقبلة، بما في ذلك التعاطي مع قضية الحريات بأفق أوسع يأخذ في الاعتبار ما تحقق علي صعيد تطوير المجتمع المدني وتوسيع رقعة الطبقة المتوسطة. كل ما يمكن قوله في هذا المجال إن ما تحقق منذ العام 1987 يسمح بالانتقال إلي مرحلة جديدة تسمح بإعلام أكثر جرأة وبحياة سياسية أكثر غني مبنية علي برامج سياسية ذات علاقة بالواقع من جهة وبكل ما هو حضاري في هذا العالم من جهة أخري. المهم أن تونس وجدت لها مكانا علي الخريطة الاقليمية والدولية وأن تجربتها تستأهل التوقف عندها. في النهاية لا شيء ينجح مثل النجاح في هذا العالم الذي تحول إلي قرية صغيرة!