استكمالا لتراثنا اللغوي من العامية التي نتداولها طوال الوقت، والتي اتضح لنا أن مفردات كثيرة منها تعود إلي اللغة المصرية القديمة (الديموطيقية)، نجد أن جملا بكاملها تعود مفرداتها إلي أجدادنا المصريين القدماء.. ومنها (برضه) و(فات) وال (بال).. ولما لم يكن هناك أصول عربية فصحي لتلك الكلمات، كان البديل هو البحث عن أصولها في غير اللغة العربية، وبالفعل وُجد أن كلمة (برضه) هي كلمة ديموطيقية كانت تنطق (باي ريتي) وهي بمعني هكذا أو أيضا.. والغريب أنهم في صعيد مصر لا يقولون (برضه) بل يقولون (برضي) وهو النطق الأقرب إلي الديموطيقية الأصلية.. وعندما نقول (ده برضه)، نعني و(هذا أيضا).. وعندما نعاتب قائلين: (كده برضه!) نعني: (أهكذا تتصرف معنا؟).. أما (فات) وهو في العامية ماضي (يفوت) والأمر (فوت) أو (فوّت) بتشديد وكسر الواو، فأصله فعل (فوت) في الديموطيقية وهو بالمعني نفسه الذي نستخدمه الآن، أي بمعني عبر أو مر أو هرب.. وإن كنا نكثر استخدامه في التعبير الكناية عن المهارة في المرور من المأزق مثلا (يفوت في الحديد).. وأيضا ككناية عن تمرير الأمور (يا عم فوّت) أو عن تمرير غير المسموح به وتهريبه (ما تفوّت دي من غير ما حد ياخد باله).. وهذا يقودنا إلي كلمة ال (بال) وهي لا تقتصر علي العامية المصرية بل انتقلت إلي لهجات عامية أخري مثل العامية اللبنانية.. وتستخدم هذه الكلمة بمعني الذاكرة أو الفكر، فتقول أنت علي بالي أي في ذاكرتي وفي فكري.. وأصل الكلمة (فال) أو (بال) لأن الحرف المستخدم هنا هو حرف (الفيتا) أو (البيتا) وكان ينطق كالباء في بعض اللهجات ومثل حرف (V ) في لهجات مصرية قديمة أخري.. والغريب أن كلمة (بال) تعني بالديموطيقية (عين) ونحن بالفعل نقول كلمة (علي عيني) كما نقول (علي بالي) مع اختلاف المعني المقصود حاليا. ولأن العين تقود إلي الفكر وإلي الذاكرة بشكل أو آخر تطور مفهوم (علي العين) أي ما تراه العين إلي (علي البال) أي ماتراه الذاكرة.. وتصبح جملة (برضه فات عالبال) منقولة مفرداتها من قدماء المصريين.. ومعناها: وهذا أيضا هرب من الذاكرة.. ولا تنتهي الكلمات المنقولة عن المصرية القديمة في لغتنا العامية.. كما أنها لا تشكل مجرد تراث لغوي بل تشكل جزءا من وجدان المصري المعاصر تكوّن لديه عابرا القرون ومتكيفا مع الثقافات واللغات الواردة إليه دون أن يندثر.. ودون أن يفقد معناه الذي نشأ منه.. بل ظل علي مضمونه الأصلي حتي وإن تحور قليلا عنه أو أضيفت إليه كناية أو استعارة أو تحددت وظيفة هذا اللفظ أو ذاك بسياق معين.. وتبقي الكلمة، وتبقي اللغة لتعبر عن الفكر والذاكرة التراثية وتربط التاريخ بالحاضر والقديم بالمعاصر.. (وبرضه ماتفوتش عالبال) أبدا.