لا أحد حتي الآن يعرف ذلك الدور الخفي الذي لعبته الوكالة اليهودية التي تأسست عام 1922 وبعد خمس سنوات فقط من صدور وعد بلفور الشهير الذي دعا إلي إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين!! وباستثناء الكتاب المهم والقيم نشاط الوكالة اليهودية لفلسطين منذ إنشائها وحتي قيام دولة إسرائيل للدكتور محمد عبدالرءوف سليم الصادر عام 1982 فلا أحد التفت لخطورة الدور الذي لعبته هذه الوكالة خاصة بين الأوساط الثقافية والصحفية ومن هنا أهمية وخطورة دراسة الباحث محمود محارب بدائرة العلوم السياسية جامعة القدس والتي نشرتها مؤخراً مجلة الدراسات الفلسطينية بعنوان المقالات الصهيونية المدسوسة في الصحف اللبنانية والسورية 1936-1939. لقد قامت الدائرة السياسية للوكالة اليهودية ليس فقط بالعمل علي تشويه النضال الفلسطيني وتزييف الحقائق الثابتة بل راحت تعمل علي تأسيس رأي عام عربي يقف ضد الحقوق القومية للشعب العربي الفلسطيني ويتقبل فكرة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين وذلك من خلال نشر مقالات صهيونية في الصحف اللبنانية والسورية نظير دفع أموال لأصحاب هذه الصحف!! قام بهذه المهمة الياهو ساسون الذي كان قد التحق في جهاز الاستخبارات التابع للدائرة السياسية بالوكالة اليهودية وكان يجيد اللغة العربية بشكل بارع فهو من مواليد دمشق عام 1902 وظل بها حتي غادر سوريا إلي فلسطين عام 1927 حيث أصبح مسئولا عن القسم العربي في الوكالة وفيما بعد فقد أصبح الرجل علي علاقة بأكثر وأغلب زعامات العالم العربي لكن الأكثر غرابة أن يصبح ابنه موشيه ساسون سفيراً لإسرائيل في مصر! كان الياهو ساسون قد سافر إلي بيروت في أكتوبر 1937 وكذلك دمشق وكتب تقريراً بمثابة خطة قدمها للوكالة اليهودية واقترح فيها: 1 - الاتصال بباريس وحثها علي الضغط علي الحكومة السورية كي توقف الدعاية المناهضة للصهيونية في الصحف السورية! 2 - نشر مقالات في الصحف السورية يومياً تقريباً تدعم الأفكار الصهيونية المركزية إزاء الوضع في سوريا وفلسطين! 3 - توجد في حلب معارضة قوية ضد الحكومة يمكن استغلالها بسهولة وأن صحف حلب ستكون علي استعداد لنشر مقالات تهاجم الحكومة السورية والكتلة الوطنية لإهمالها مسألة لواء الإسكندرون المحتل! أما بالنسبة للصحافة اللبنانية فقد اقترح الياهوساسون أن يقوم نائب رئيس الدائرة السياسية برنارد جوزيف بإرسال رسالة شخصية إلي رئيس الجمهورية اللبنانية إميل اده يلفت انتباهه إلي ما تنشره الصحف اللبنانية وأن تطلب الحكومة اللبنانية من الصحف الكف عن التدخل في القضية الفلسطينية وأن تلتزم الحياد تجاه هذه القضية! وبدأ ساسون في تكثيف نشاطه لنشر المقالات الصهيونية في الصحف السورية وفي أكتوبر 1937 أرسل إلي عميل الوكالة اليهودية في دمشق الصحفي ع.ع ثلاثة مقالات لنشرها وبالفعل تم نشر مقالتين في صحيفتين دمشقيتين والمقال الثالث نشره في صحيفة الدستور التي تصدر في مدينة حلب بتاريخ الثالث من أكتوبر وقد أثار المقال ضجة كبيرة فقد نشر علي شكل افتتاحية في الصفحة الأولي بعنوان نحن أولي بلجنة دفاع عن سورية من لجنة دفاع عن فلسطين وباقي بلاد العرب. جاء في المقال المدسوس أن ينصرف السوريون مثلا وهم في حالتهم الحاضرة المليئة بالفقر المدقع والاضطراب والاختلافات والتحزبات إلي معالجة المشكلة الفلسطينية وغيرها وهم علي ما هم عليه من تفكك وخور فذلك فضلا عن إنه يؤخرهم عن تدارك أمرهم الذي قد يؤدي إلي الهلاك والدمار فهو يؤدي أيضا إلي الهزء منهم والاستخفاف بهم من جانب الأجانب الطامعين فنحن والحالة هذه أولي بلجنة دفاع عن سورية منا عن لجنة دفاع عن أية بقعة من بلاد العرب العزيزة ولا نظن أن عاقلا مهما بلغ منه التهور والتطرف يترك باب داره مفتوحا أمام عصابات اللصوص المحدقة به من كل صوب ويهب لمساعدة جاره المنكوب بدوره بهؤلاء اللصوص. وفي العاشر من أكتوبر أرسل الياهوساسون تقريراً من بيروت إلي نائب رئيس الدائرة السياسية للوكالة اليهودية وذكر فيه إنه أنهي كتابة 12 مقالا لنشرها في الصحف اللبنانية والسورية وإنه طلب من عميل الوكالة اليهودية الصحافي ع.ع القدوم من دمشق إلي بيروت لمساعدته في إيصال المقالات التي خصصها ساسون للصحف البيروتية إلي محرري هذه الصحف وبعد أن قام الأثنان بالمهمة غادرا بيروت وتوجها إلي حلب. ومن هناك أرسل ساسون تقريراً إلي برنارد جوزيف أخبره فيه إنه نجح في أثناء زيارته حلب في الاتفاق علي نشر سبعة مقالات في صحيفتين تصدران في حلب هما الدستور والجهاد! وجاء في التقرير أيضا أن المقالات المنشورة في الدستور تهاجم لجنة الدفاع عن فلسطين وتطالب الحكومة السورية بمصادرة الأموال كلها التي جمعتها اللجنة لمصلحة فلسطين وبتوزيعها علي فقراء سورية وعمالها الذين يتضورون جوعا بينما تنتقد المقالات المنشورة في صحيفة الجهاد الحكومة السورية والشعب السوري لأنهما أهملا مسألة لواء الإسكندرون المحتل! وتدعو إلي إيقاظ الشعب السوري وتأسيس لجان دفاع عن هذا اللواء. وأضاف ساسون في تقريره هذا إنه وعد الصحيفتين بأن يرسل إليهما مقالات جديدة لنشرها وأردف كما تري هذا عمل ثمنه قليل ونتائجه كبيرة!! ثم طلب في ختام تقريره من برنارد جوزيف الإيعاز إلي مدير وكالة الشرق ناحوم فيلنسكي بأن ينشر تلخيصاً للمقالات المدسوسة بكاملها في صحيفة دافار كي يثبت للعرب والإنجليز إنه ليس كل السوريين يتضامنون مع عرب فلسطين! المثير في الأمر أن وكالة الشرق كانت وكالة أنباء باللغة العربية تم إنشاؤها في القاهرة في يناير عام 1934. قصة وكالة الشرق بأسرارها في مصر صفحة غامضة تستحق القراءة من جديد!!