يصدر هذه الأيام كثير من الكلام المضحك عن تنازلات فلسطينية، خصوصا بعد مشاركة رئيس السلطة الوطنية السيد محمود عبّاس (أبومازن) في القمة التي دعا إليها الرئيس باراك أوباما في نيويورك والتي ضمت أيضا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو. هل كان مطلوبا أن يرفضأبو مازن الدعوة الأمريكية ليثبت وطنيته... أم كان مطلوبا أن يستغل القمة ليؤكد الموقف الفلسطيني الرافض للاستيطان؟ من دعا أبومازن إلي مقاطعة القمة كان يخدم رئيس الوزراء الإسرائيلي من حيث يدري أو لا يدري. كان كافيا أن يقاطع رئيس السلطة الوطنية القمة ليعلن نتانياهو فوزه عليه بالنقاط. في النهاية، إن الانتصار الأكبر الذي سجله أرييل شارون علي الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني، ياسر عرفات، رحمه الله، كان عندما قطع الأمريكيون علاقتهم بعرفات. حصل ذلك في الأيام الأخيرة من عهد بيل كلينتون بعدما رفض أبوعمّار الإعلان صراحة أنه يقبل وثيقة كلينتون التي تضمنت إطارا للتسوية تلبي إلي حد ما طموحات الشعب الفلسطيني. كانت هناك نقاط ملتبسة في الوثيقة، لكنها كانت تصلح قاعدة انطلاق لأي مفاوضات مستقبلية تشرف عليها إدارة بوش الابن. انتهي أبوعمّار عمليا عندما سُدَت أبواب البيت الأبيض في وجهه بأحكام ... ردّ أبوعمار علي فشل قمة كامب ديفيد صيف العام 2000 بعسكرة الانتفاضة وهو قرار عاد بالويلات علي الشعب الفلسطيني في الداخل، خصوصا أن العسكرة استمرت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وإعلان إدارة بوش الابن ما يسمّي الحرب علي الإرهاب. قضي أبوعمار في نوفمبر من العام 2004 جراء الحصار الإسرائيلي الذي تعرّض له. ما كان لهذا الحصار أن يستمر طويلا لولا القطيعة الأمريكية التي كان بوش الابن مقتنعا بها للأسف الشديد في هذا العالم الظالم. ما نشهده اليوم وجود محاولة فلسطينية للاستفادة من أخطاء الماضي القريب. هناك أسلوب جديد في التعاطي مع الواقع. يستند هذا الأسلوب أساسا إلي عملية بناء البيت الداخلي. لذلك بات في استطاعة المجتمع الدولي أن يقول إن الفلسطينيين يتحملون المسئوليات الملقاة عليهم. في مقدمة المسئوليات المحافظة علي الأمن والتزام التعهدات التي قطعوها بموجب الاتفاقات التي تم التوصل إليها مع إسرائيل منذ توقيع اتفاق أوسلو في حديقة البيت الأبيض في العام 1993. لم يعد هناك شيء اسمه التذاكي الفلسطيني. يمكن أن تكون هناك عيوب كثيرة في شخصية رئيس السلطة الوطنية ولكن ما لا يمكن تجاهله أنه رجل واضح يلتزم كلمته. وقد أكسبه ذلك احتراما شديدا لدي المسئولين الكبار في أوروبا والولاياتالمتحدة وعدد لا بأس به من الدول العربية والإسلامية. انعكس هذا الاحترام علي القضية الفلسطينية. ظهر ذلك واضحا من خلال ما شهدته أروقة الأممالمتحدة في نيويورك قبل أيام. في حال كان مطلوبا تلخيص الموقف الدولي من القضية الفلسطينية، يمكن القول إن المعركة حاليا هي معركة حدود الدولة. هناك رئيس للوزراء في إسرائيل لا يمانع في أن تكون هناك دولة فلسطينية ترسم المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية حدودها. وهناك مجتمع دولي يؤكد أن حدود الدولة الفلسطينية تستند إلي حدود العام 1967. هذا ما أشار إليه الرئيس أوباما في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة وهذا ما تضمنه البيان الصادر عن اللجنة الرباعية التي تضم ممثلين عن الولاياتالمتحدة وروسيا وأوروبا والأممالمتحدة. أكدت اللجنة الرباعية في بيانها الصادر يوم الجمعة الماضي في نيويورك أن الحل الوحيد القابل للحياة للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني يتمثل في اتفاق ينهي الاحتلال الذي بدأ في العام 1967. ربح الفلسطينيون جولة مهمة في المواجهة مع حكومة نتانياهو التي تسعي إلي الهرب من عملية السلام إلي مكان آخر... إلي إيران. لا شك أن التصريحات الأخيرة للرئيس محمود أحمدي نجاد تسهل لها هذه المهمة، خصوصا عندما ينفي الرئيس الإيراني حصول المحرقة التي دفع الفلسطينيون ثمنا غاليا لها حتي الآن. ولكن كان مهما أن يتمسك الجانب الفلسطيني بخط سياسي واضح يضع المجتمع الدولي كله في مواجهة نتانياهو. في النهاية، يدرك الفلسطيني الواعي أن لا معني للكلام الفارغ عن المقاومة بعد المأساة التي شهدتها غزة التي لا تزال تحت الحصار. ويدرك الفلسطيني الذي يتمتع بحد أدني من الحس السياسي أن الجيش الفلسطيني لا يحاصر تل أبيب وأن مجرد إطلاق صاروخ من غزة يسمح لإسرائيل بممارسة إرهاب الدولة الذي تتقنه جيدا... هناك من دون شك تفهم دولي للمخاوف الإسرائيلية من البرنامج النووي الإيراني. وهذا ما ظهر بوضوح من خلال القرار الأخير الذي اعتمده مجلس الأمن في الجلسة التي عقدها برئاسة أوباما. ولكن، هناك أيضا رفض لدي المجتمع الدولي لسياسة الاستيطان الإسرائيلية التي تمثل تكريسا للاحتلال. لم يكن في استطاعة اللجنة الرباعية أن تكون أكثر صراحة عندما تحدثت عن اتفاق ينهي الاحتلال الإسرائيلي الذي بدأ في العام 1967. إنها بكل بساطة معركة حدود الدولة الفلسطينية. بالسياسة الذكية وليس بالعمليات الانتحارية أو صواريخ حماس المضحكة- المبكية، يقول الفلسطينيون يوميا إنهم تعلموا شيئا من التجارب القاسية التي مروا بها. أول ما تعلموه أن لا خيار آخر في هذه الأيام سوي خيار الدبلوماسية. كانت هناك أيام تنفع فيها العمليات العسكرية. هناك وقت للسياسة والدبلوماسية ووقت آخر للعمليات العسكرية. هذا وقت السياسة بامتياز.