أبهر رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء التركي شاشات التليفزيون العربية والدولية في شهر فبراير الماضي، حين ترك المناقشة التي كان ضيفاً فيها رئيس إسرائيل شيمون بيريز.. وأعلن أنه لن يشارك في منتدي دافوس مستقبلا.. واعترض علي إتاحة وقت أكبر لبيريز لكي يبرر قصف غزة في حين لم يتح له وقت مماثل للرد علي ما قال. وفي الوقت الذي تعرض فيه عمرو موسي أمين عام جامعة الدول العربية لانتقادات حادة، لأنه كان موجوداً في المناقشة ولم يتضامن بالانسحاب المشترك مع أردوغان، كانت عشرات من الأقلام العربية قد انجرفت في امتداح لافت ومندهش ومنبهر بما فعله رئيس الوزراء التركي.. ومضي الكثيرون إلي البناء عليه وعلي غيره من التصرفات التركية الشكلانية خلال أزمة غزة.. لتحليل أبعاد الدور التركي المستجد علي أزمات الإقليم.. ورسم الكثيرون آفاقا بعيدة.. خصوصا فيما يتعلق بعلاقاتها مع إسرائيل. وقد سبقت هذا السلوك الأردوغاني في دافوس وتلته مجموعة من المواقف التركية المظهرية والمجتذبة لأضواء القنوات الشعبوية.. ومنها خطاب أردوغان في البرلمان التركي إبان أزمة غزة.. الذي هاجم فيه إسرائيل بعنف لكنه لم يذهب بعيداً إلي حد قطع العلاقات معها.. وقال هذه مسائل استراتيجية.. ومنها أيضا إلغاء وزير الخارجية أوغلو لزيارته لإسرائيل قبل فترة وجيزة لأن تل أبيب رفضت السماح له بالسفر إلي غزة. كل هذا وغيره يبقي في خانة التصرفات ذات الجاذبية الإعلامية والشارعية..التي تبقي قيد الاختبار الحقيقي حين يأتي موعد يكون فيه مستحقاً أن تعلن الدبلوماسية المظهرية عن موقف صريح وفعال علي أرض الواقع.. وخلالها ليس من المتوقع أن تقوم أي دولة إلا بتلبية ما يحقق مصالحها بغض النظر عن اهتمامات الرأي العام وتحليلات الكتاب المنبهرين. وقبل يومين صدر عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في مؤتمرها العام السنوي رقم 53، قرار اقترحته المجموعة العربية، ويمثل نجاحا كبيراً للدبلوماسية المصرية، دعا إسرائيل إلي الانضمام إلي معاهدة منع الانتشار النووي.. وإيجاد شرق أوسط خالٍ من الأسلحة النووية.. وهي المرة الأولي التي يتم فيها تمرير هذا القرار منذ 18 عاما فقد كان آخر مرة صدر في عام 1991. المفاجأة هنا لم تكن في القرار وحده وإنما في التصويت عليه.. إذ انتبه الكثيرون إلي أن تركيا كانت بين الدول التي امتنعت عن التصويت عليه.. ما يحيط مواقفها بتساؤلات كثيرة.. ويخضع سياستها التي يفترض فيها أنها تناصر السلام والحقوق العربية التاريخية إلي علامات استفهام كبيرة للغاية. ومن الطبيعي ألا تضع تركيا علاقاتها مع إسرائيل قيد الريح العاطفية، فقد بلغت حد خوض المناورات المشتركة، وعقد الاتفاقيات الاستراتيجية وبما في ذلك استيراد السلاح من إسرائيل، إن تركيا لم تلق بالاًً بآهات ساخنة تهب من الصدور العربية تعجبا وإعجاباً بالافتعالات المتناثرة من حين إلي آخر. ولست من السذاجة بحيث أعتقد أن أي دولة يمكن أن تضع اعتباراتها الاستراتيجية علي المحك مقابل إرضاء المعجبين العرب.. وبالتالي فإن التساؤلات يجب أن تبقي مطروحة علي هؤلاء الذين تخيلوا أن تركيا تندفع لتأييد الحقوق العربية علي حساب مصالحها مع حلف الأطلسي ومع الولاياتالمتحدة ومع إسرائيل. وإذا كان الكثيرون قد انتقدوا النظام العربي لأن تركيا هي التي تداخلت بداية بين كل من العراق وسوريا في خلافهما بسبب اتهامات العراق قبل أسبوعين وتساءلوا أين الدور العربي.. فإن كثيراً من المراقبين لم يخف عليهم أن تركيا إنما سارعت بهذا التداخل لأنها تخشي علي أمرين جوهريين في مصالحها الاستراتيجية وليس لأنها تريد أن تُصلح ذات البين بين دولتين عربيتين. المصلحة الأولي هي المياه.. في ضوء العلاقة النهرية المتشابكة بين الدول الثلاث عبر نهر الفرات.. والثانية تتعلق بأوضاع الأكراد في المنطقة المتماسة والمتقاطعة مع حدود كل من سوريا والعراق وإيران.. وهذه معضلة تعاني منها الدول الأربع بالتأكيد وتبقي وضعها الهش قيد التجميد والتسكين. لكن ما جري في فيينا كان مثيراً جداً.. ومهماً للغاية.. ويطرح نفسه علي مائدة أي معجب عربي.. وبالتالي علي المحللين من هذه النوعية أن يطرحوا التساؤلات التالية: - هل الامتناع التركي عن التصويت لصالح القرار العربي المطالب بفرض ضمانات ضد سياسة إسرائيل النووية وبما يعزز المطالبة العربية بإخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل.. يعني ترضية علنية لإسرائيل واعتذاراً عن المواقف السابقة التي اتخذتها تركيا تجاه إسرائيل.. هل هي رسالة للعرب أم أنها رسالة إلي إسرائيل.. وأوروبا والولاياتالمتحدة.. أم أنها رسالة للداخل التركي خصوصا القوي القلقة علي العلاقات الاستراتيجية مع إسرائيل.. أم لعله قبول تركي علني بالواقع النووي الإسرائيلي الغامض؟ -هل الامتناع التركي يمكن تبريره أمام صديق أنقرة في سوريا.. وهل هذا جزء من آلية التفاوض غير المباشر التي كانت تركيا تديرها بين إسرائيل وسوريا وتوقفت بناء علي رغبة إسرائيل؟ - وكيف يمكن أن تفسر تركيا امتناعها هذا عربياً.. وكيف يمكن أن تفسره لمصر التي نسَّقت من أجل إصدار القرار.. وكان وزير خارجية تركيا يزورها قبل أيام في إطار الصداقة المعروفة؟ هذه مجرد ملاحظات طرأت لي وأنا أتابع أنباء الامتناع التركي.. بينما كنت قد تابعت من قبل كتابات المعجبين العرب بسياستها الخارجية.. لعلي أجد لديها تفسيراً أو ربما كان لديهم هم. www.abkamal.net [email protected]