اليوم شكلت الحكومة البريطانية لجنة لتقصي الحقائق ودراسة الأحوال في مصر، بعد شهور من اندلاع الثورة الشعبية العظيمة في مارس من العام نفسه، وعُرفت هذه اللجنة باسم مقررها اللورد ملنر. جاءت اللجنة إلي مصر فوجدت مناخًا شعبيًا معاديًا، لا يرحب بالتعاون والتواصل والنقاش، فقد صدرت تعليمات الوفد بالمقاطعة الشاملة وتجنب الاستجابة لما ترومه اللجنة من البحث عن السؤال الذي تشكلت للإجابة عنه: لماذا اشتعلت الثورة بكل هذا العنفوان غير المتوقع؟! ومثل هذه الإجابة لا تمثل الهدف الوحيد بطبيعة الحال، فالأهم هو التوصل إلي المنهج العملي المناسب الذي يحول دون اندلاع المزيد من الثورات التي تهدد الامبراطورية. تعبير مثل الفشل الذريع لا يكفي لتجسيد حالة اللامبالاة التي قُوبل بها اللورد ملنر ومن معه، فالفلاح الأجير والموظف الصغير والتاجر والعامل الزراعي والمهني والسياسي والمسلم والمسيحي والكبير والصغير، أجمعوا علي الصمت البليغ العنيد الذي لا يخرج عن حدود الأدب، وليس من إجابة عن أي سؤال إلا بكلمات واحدة: اسألوا سعد باشا! كان سعد زغلول هو الزعيم الذي وثق به الشعب فأحال إليه مسئولية أن يتحدث باسمه، وانتشر مندوبو لجان الوفد في كل بقعة، وصولاً إلي هذه النتيجة غير المسبوقة، ولا شك أن ملنر قد استوعب الرسالة وأدرك أن الثورة أعمق مما كان يتخيل، فمثل هذا الإجماع لا ينطلق من فراغ، ومثل هذه الثقة بالزعيم لا يمكن أن تكون مصادفة. أجمل وأروع ما في واقعة لجنة ملنر هذه، أنها تكشف عمليا عن السر الكامن في أعماق الشخصية المصرية، وهو عمق لا يدرك كنهة إلا المصريون أنفسهم، ففي لحظة بعينها يتجلي بوضوح أننا قادرون علي التكاتف والتكتل كأننا السد المنيع الذي يستحيل اختراقه، وأننا نعرف أهدافنا جيدًا ونسعي إليها بدأب وإصرار، لا شأن للأجنبي الدخيل بأمورنا الداخلية، ولا سلطة جديرة بالاحترام إلا الشرعية الشعبية التي تمثل الإرادة الوطنية الحرة المستقلة.