كتاب " جورج حنين. أعمال مختارة " ترجمة بشير السباعي، يمثل مدخلا مهما في التعرف علي رائد السيريالة المصرية 1914/ 1973- فقد ضم الكتاب مختارات شعرية ونثرية تعرف القارئ علي الكثير في عالم جورج حنين الذي بلغت أعماله أربعة عشر كتابا. وإذا كانت هناك ترجمات لبعض أشعاره وكتاباته النقدية فلم تزل قصصه القصيرة بعيدة عن الترجمة وقد جمعت في كتاب صدر في جنيف تحت عنوان " ملاحظات حول بلد لا جدوي منه " عام 1977. قراءة كتابات جورج حنين لا تدفعك إلي الارتداد للوراء وتذكرة نفسك بأنه نص من زمن ماض، بل تراها نصوصا تشارك لحظتنا التاريخية الحالية، مشاركة قد تسبق الكثير من كتابات الآن في تسمية الأشياء واستشراف المستقبل. قال جاك بيرك عنه وعن أنور كامل وكامل التلمساني ورمسيس يونان وفؤاد كامل " ماذا صنع هؤلاء؟ ربما لا شيء، لكنهم صنعوا كل شيء. صنعوا المستقبل ". في قصيدة معني الحياة يتأمل حنين إمبراطورية الحوائط المتمثلة في كل القوانين والأعراف والأخلاقيات التي تحد من تفرد الانسان وتحدد قيمته ومدي سمكه، وما إن يتم استهلاك الكثير من الحوائط " يبدأون من جديد في بناء الحوائط . وفي الحياة كحوائط. بنفس الضجر. بنفس الجمود. مع مصير عقيم ملئ بالحوائط ". ويتضح صوت الجالس علي جانب الطريق البعيد عن صخب إمبراطورية الحوائط والمتوحد صوته مع أصوات رغباته في قصيدة " امتياز الحياة ". جانب الطريق هنا موقع رؤية حرة تتيح لصاحبها أن يرمي " أولئك الذين يكتفون بالنظر علي رأس أولئك الذين يكتفون بالفهم وهذا يحدث دائرة زرقاء واسعة حول العينين لا يبرأ منها أحد " الجالس علي جانب الطريق يعيد النظر في الأشياء من حوله. تمثل له نقطة الوصول بداية جديدة لارتحال آخر . لذلك يحب جورج شعر بول إلوار الذي يراه شاعر السوريالية الأول فهو من الشعراء الذين ذهبوا إلي عوالم عقولهم الباطنية المليئة بالميول والغرائز المكبوتة. إن انحياز حنين لإلوار يؤكد رؤيته للشعر الذي تكف فيه الكلمة عن " أن ترتد ضد الانسان، وإنما علي العكس من ذلك تزيده رحابة، تنتشله من هزيمته اليومية. الكلمة شأنها في ذلك شأن الأشياء المحسوسة والحقائق الواقعية الحسية تقريبا، تساعد الإنسان علي أن يعي اتساع رغباته - وكثمن شيطاني يتعين عليه سداده لقاء هذا الانتصار الأخير - تساعده بان تعرض عليه بلا توقف أكثر هذه الرغبات غواية " تلك الرؤية هي ما يحرص حنين علي إظهارها والحوار معها سواء شعريا أو نثريا ، فوعيه بأنها صادمة للواقع الذي يعيشه تجعله مداوما علي الدفاع عنها، وأن يبعدها عن أية محاولات لسجنها داخل أطر أو إيدلوجيات محددة. إن الإيمان بفكرة ما يعني عند جورج عدم الوقوف عند حدها بل هي خطوة في سبيل تجاوز تلك الفكرة نحو أفق أكثر رحابة. ومن هنا هجوم حنين المستمر علي أصحاب " الأرثوذكسيات الفكرية " من يحيلون الحياة إلي مجموعة من المعتقدات الصارمة، إن المثل الأعلي عند هؤلاء " هو تحويل الذكاء إلي نوع من صحيفة رسمية. فهل يناقش المرء الصحيفة الرسمية؟ ". نستطيع ان قراءة تلك المختارات علي أنها كتابة أسئلة لا تنتهي. أسئلة وإن اتضحت إجاباتها لكن الإجابات تصير بدورها في نصوص الكتاب موضع مساءلة . في قصيدته "منظورات. الي أندريه بروتون " التي تشكلت من أسئلة متتالية " لم لا نجعل الحياة أهلا للسكني؟ لم لا نهرب من المقاعد المألوفة والمصائر المعيشة بما يكفي؟ لم لا نتجنب جفون الطرق الملعونة ونختفي في الليل الأكثر غموضا حاملين بأقصي سرعة جثة لمجهولة مزق أوصالها حلم يحتدم دون خطر من يقظة؟.