العاشرة والنصف صباحاً - شتاء - حديقة الأزبكية ومسرح الأزبكية، كان يقع وسط حديقة واسعة وارفة ممتدة من الأوبرا وحول سور الحديقة تقع أجمل الثروات المجانية إنه سور الأزبكية وتتجول وسط الأشجار ويتسلل إلي أذنيك أصوات تدريبات الكورال من نوافذ الأوبرا وزقزقة العصافير وأجراس الترام القادمة من ميدان العتبة وخطوات متعجلة علي رصيف مقهي متابا وسيارة واحدة يتيمة سوداء تدلف إلي الفناء ينزل منها الفنان حسين رياض تلاقيه أمينة رزق ضاحكة ثم يتدفق الممثلون واحداً وراء الآخر. يرشفون وبسرعة فناجين القهوة وأكواب الشاي ويختفي الجميع مع دقات ساعة البريد الحادية عشرة ويسود الصمت وأتسلل ومن معي من أصدقاء إلي آخر القاعة لنجلس في الظلام، فالصمت يلف المكان كله وقد تم ترتيب خشبة المسرح ببضعة مقاعد ومائدة. ويكسر الصمت، صوت الأستاذ فتوح نشاطي.. ياللا يا جماعة المشهد رقم كذا.. في ثوان معدودات يتوزع الكل في أماكنهم ويبدأ الأداء ليتوقف عند ملاحظة من الأستاذ فتوح من جديد: برافو.. تمام.. من تاني.. يا سلام.. رائع.. المشهد اللي بعده.. وتستمر الإعادة والتصحيح والبرافو ثم يصيح. - فين الأستاذ عمر ويرد المساعد - الأستاذ عمر الحريري مش موجود وفجأة يظهر عمر الحريري يلمع وجهه بشدة بلون أحمر، لا أدري إن كان لون الخجل أم لون ماكياج صباحي مبكر في أحد الأفلام. فتوح: إيه يا عمر.. إيه اللي أخرك عمر: أبداً.. أصل اتأخرت.. لكن.. جيت (ضحك جماعي لتخفيف التوتر) فتوح: سيما بقه.. ياللا.. اتفضلوا.. برافو وينطلق عمر مؤدياً وحافظاً ومركزاً إنها بروفة لمسرحية زواج الحلاق ويزداد الحماس ويتشابك الأداء ويكرر الأستاذ برافو.. برافو وتدق ساعة البريد الثانية وينطفئ النور ويسود صمت وينطلق الجميع ويسود الصمت، وأتسلل إلي الكواليس وأري أستاذي فتوح صاعداً لغرفته الصغيرة، يفتح بابها ويتعثر مفتاحه قليلاً ثم يستجيب له فيقول برافو.. أهو كده.. ويدخل ليضيء مصباحاً ويجلس أمام مكتبه وأنظر داخل الغرفة فأجد أكداساً من الكتب والمراجع في كل مكان واسمع خرفشة الأوراق، والأستاذ يقلب في كتابه ويصل إلي الصفحة التي يريدها ويقول (برافو.. تمام) ويبدأ في القراءة وأتركه لوحدته الممتعة وأسأل هل يقيم فتوح بالمسرح ويلمحني الرجل العجوز الذي يخدم غرفات الفنانين وهو يحمل فناجين القهوة وأكواب الشاي وأسأله هل يقيم الأستاذ هنا؟ فيقول: لا يغادر أحدنا المسرح إلا للشديد القوي.. أجيب لك شاي ولأني فنان بقه احببت أن أكون صاحب مزاج قلت: - لأ فنجان قهوة وأشعلت سيجارة وجلست علي السلم المؤدي لغرفة الأستاذ وأنا أسمعه يقلب أوراق كتابه وهو يقول (برافو - تمام ). - وجاءت القهوة ورشفة ونفس من السيجارة وسألت نفسي هل سيأتي علي يوم أقيم هكذا بالمسرح وأمارس حياتي ونشاطي مثل فتوح نشاطي وهل ستكون لدي القدرة كي ألتهم المراجع الأجنبية وهل سأتمكن من إخراج أعمال كبيرة وأصيح (برافو - تمام). وسرحت طويلاًً وبدأت أعد درجات السلم الهابط حتي باب الكواليس ولم أدرك أن الوقت قد مر وبدأت أقدام طاقم الممثلين الآخرين تصعد السلم استعداداً لعرض المساء، والعرض هو سلطان الظلام لدستوفيسكي، إخراج وتمثيل فتوح نشاطي. وسمعت دبيب أرجل الأستاذ وهو يغادر غرفته بلحية كثيفة وبالطو من الفرو، لقد تحول إلي عجوز روسي قديم ومد يديه لكي يربط حزاماً عريضاً علي بطنه ومددت إليه يدي لمساعدته وتم ربط الحزام فصاح ( برافو.. كده تمام) وهبط السلم وهبطت خلفه واسرعت للقاعة التي امتلأت بالمشاهدين وفتح الستار لأصاب بحالة من البرد الحقيقي فالديكور يمثل بيتاً روسياً وسط صقيع حقيقي وجليد يتناثر علي النوافذ ويعلو ملابس القادمين من خارج الغرفة. ولعل أحداث المسرحية تسقط بعيداً عن ذاكرتي حالياً لكني مطلقاً لا أنسي الجو العام للعرض ولا أنسي عمنا فتوح وهو يمثل الرجل الروسي العجوز ولا أنسي هبات الجليد عند فتح الأبواب ولا تساقطه من فوق ملابس القادمين، لقد كان العرض (برافو جداً وكله تمام).. ويشاء القدر أن يكون فتوح هو أستاذنا في تدريبات المشاهد الكبيرة للتخرج وها هو يأتي قبل موعد محاضرته وعندما نكتمل يلقي حقيبته الجلدية القديمة جداً يلقيها علي المائدة ويقول.. افتحوها.. فيها المشاهد اللي أنا مقترحها. ويقول الطلبة السابقون لنا فتوح جاب الشنطة؟!!! ونعرف أن شنطة فتوح مليئة بالمشاهد المختارة المتكاملة والتي تصلح للامتحانات وفيها أهم المشاهد المتميزة من وجهة نظره أو ( القطع الفاخرة) من الأعمال التي أخرجها أو مثلها أو يجد أنها ذات ميزة في فن الأداء ومعظم هذه المشاهد من نصوص عالمية وفرنسية بالتحديد من التراجيديات والفارسات، مجموعة المشاهد المكتوبة معظمها بخط يده، مليئة بالملاحظات وتقطيعات الأداء ويقول الخبثاء إن هذه الأوراق هي نفسها التي تخرج بها ثلاثة أجيال أو أكثر سابقة لنا وأنها مشاهد ( مضمونة جداً) ولا ترهق الأستاذ في تدريب الطلبة عليها وأنها مشاهد من وجهة نظر الأستاذ (برافو) واختطف كل منا مشهداً أو أكثر وصاح الأستاذ كل واحد ينقل المشهد ويرجعه للشنطة. وانشغلنا بنقل المشاهد واستعار بعضنا بعضها مع كتابة قائمة بالمشاهد المستعارة واسم الطالب أمام المشهد الذي اختاره. وسألني الأستاذ: وانته حتعمل إيه أنا: أنا ما لقتش نفسي في الشنطة فتوح: طيب.. حاتقدم إيه؟ قلت له: حاجة عن نابليون قال: النسر الصغير.. برافو قلت: لأ.. رجل الأقدار لبرنارد شو قال: بونابرت.. برافو .. شد حيلك.. حتلاقيه في الجيب الثاني في الشنطة. قلت: كده ما خدتش بالي.. (وسارعت للحقيبة) فوجدت بونابرت راقداً داخلها سحبت المشهد وبدأت في الاستعداد.