كنت في التاسعة من عمري عندما انتقلت أسرتي من القرية إلي مصر القديمة بالقاهرة، ومعلوم أن هذا الحي به مدينة الفسطاط أولي مراحل نشوء القاهرة وبه جامع عمرو بن العاص أول ما بناه المسلمون من بيوت الله، وزائر الحي والمقيم به يجد نفسه محاطا بكثرة لافتة من مقامات أولياء الله من التابعين وتابعيهم من المسلمين الأوائل وحول كل مقام زاوية صغيرة أو مسجد كبير: محمد بن مسلمة شقيق رسول الله في الرضاعة هكذا عند العامة، وحسن الأنوار وزين العابدين إلي آخره، ثم محيط هائل يمتد من الشرق إلي الغرب وإلي الشمال يضم مقامات ومساجد الأسماء الكبيرة: نفيسة العلم وعائشة ورئيسة الديوان السيدة زينب رضي الله عنهن أجمعين. كانت هذه المقامات الكريمة والمساجد العتيقة تستهويني بشدة، لأسباب كثيرة متداخلة ومتكاملة، روحية وتاريخية ووجدانية. كان مسجد السيدة نفيسة يسيطر علي انجذابي إلي العلم، وكان مسجد السيدة زينب يهيمن هيمنة محيطة لجهادها ومحلها الرفيع في وجدان الشعب المصري. لكنني كدت أقيم إقامة تامة علي مدي ما يقرب من ربع قرن، في مبني يضم قبر العارف بالله سيدي أبي السعود (توفي حوالي 930 ه) والمسجد حوله. كان هذا المبني ولا يزال علي مسافة محدودة من بيتنا وكانت حجرتي تطل عليه وتكاد تكون بعضا منه. كان جزء المقام من المبني يضم ثلاثة قبور لسيدي وزوجته وابنهما. قبر كبير للولي الكريم وأصغر منه لزوجته وأصغر منهما للابن. وأما المسجد فعلي مساحة واسعة وعلي الطراز المعماري الإسلامي ويظهر علي أركانه وجدرانه مدي اهتمام ولاة مصر وسلاطينها به وما أجروه عليه من توسيعات وترميمات وتجديدات تحكي كلها تطور فن العمارة المصرية عبر القرون، وفي صدر المبني لوح رخام عليه أبيات منها: أبي السعود له جاه ومنقبة.. من زار ساحته يبلغ به أمله وكانت بلكونة حجرتي تستوعب المشهد طول الوقت وحتي أثناء نومي، كانت تتسلل برهافة إلي سمعي ابتهالات الشيخ عيد وأدعيته قبل أن يؤذن للفجر، وكان صوته، رحمه الله، يشع نورا وحنانا وجمالا. وأبرز ما كان يشدني بقوة إلي ذلك الرحاب أمران أما الأول فهو أن العامة كانت تروي سيرة لهذا الولي الجليل مدارها أنه كان طبيبا للقلوب، يداويها روحيا ليطهرها من الهموم والأشجان والشواغل وتتسع آفاقه للهوي العذري والحب الدنيوي العفيف بين الذكور والإناث، فكان الجمهور يتوافد من كل فج من أركان مصر الأربعة كل ثلاثاء فيكون اليوم عيدا صغيرا يضج بالسرور والحبور. ويغلب علي هذا الجمهور غلبة واضحة الشابات حديثات الزواج والفتيات اللائي يجهزن أنفسهن للزواج. كان هؤلاء النسوة والفتيات ينشدن معالجات للأشواق وحاجات عاطفية ونفسية. وأما السبب الثاني فهو ارتباط تلك المرحلة من حياتي بالتطور التدريجي من الطفولة إلي المراهقة إلي اليفاعة إلي أول الشباب. ومعلوم أن هذه المرحلة في حياة كل البشر تقترن اقترانا حميما بآفاق الرومانسية والوجدانية التي ترقي لدي بعض الناس، وأنا منهم، إلي مدارك صوفية عالية. ولا أزال إلي اليوم أزور ذلك الرحاب الكريم لأبعث في نفسي وروحي أكرم الذكريات.