ما يحصل في لبنان أكثر من طبيعي. مطلوب العودة إلي نظام الوصاية لا أكثر مع فارق أن الوصاية يجب أن تكون هذه المرة مشتركة. لا يستطيع الإيراني القبول بوصاية تقتصر علي النظام السوري كما كانت الحال في الماضي. يصرّ الإيراني هذه المرة علي أن يكون شريكا فاعلا في لبنان. لن يقبل بأن تكون هناك حكومة لبنانية لا يوافق عليها ولن يقبل حتي أن تكون الحكومة اللبنانية نتيجة توافق سوري- سعودي. تبين بما لا يقبل الشك أن السوري لا يستطيع تجاوز الإيراني ولا يستطيع التفاهم مع أي طرف عربي من دون الضوء الأخضر الآتي من طهران. نجح الإيراني إلي حد كبير في إقامة دويلته في لبنان معتمدا خصوصا علي سياسة تعتمد النفس الطويل مستمرة منذ ثلاثين عاما. لعل أبرز نجاحين حققهما النظام الإيراني في لبنان، فضلا بالطبع عن أخذه الطائفة الشيعية الكريمة رهينة، وراثة الوجود المسلح الفلسطيني في جنوب لبنان خصوصا، ثم وراثة الوجود المسلح السوري في معظم الأراضي اللبنانية ابتداء من السادس والعشرين من أبريل 2005 عندما اضطرت دمشق تحت ضغط الشعب اللبناني إلي سحب وحداتها العسكرية من الأراضي اللبنانية. عرفت طهران كيف تملأ الفراغ الذي خلفه الانسحاب السوري أكان ذلك من الناحية العسكرية أو الأمنية. لم تكتف بذلك. عملت كل ما تستطيع من أجل تغيير التوازنات السياسية في لبنان. كانت طهران وراء افتعال حرب صيف العام 2006 التي استغلتها إسرائيل لتدمير جزء من البنية التحتية اللبنانية وإعادة البلد سنوات إلي خلف. سمّت الانتصار علي لبنان "انتصارا إلهيا"! كذلك كانت طهران وراء أحداث الثالث والعشرين من كانون الثاني- يناير 2007 التي استهدفت وضع بيروت كلها وجبل لبنان كله تحت وصاية "حزب الله" عبر أدواته المحلية علي رأسها الأداة المسيحية. لكن اللبنانيين أفشلوا تلك المحاولة عندما صمد المواطنون المسيحيون العاديون خلف قياداتهم التاريخية ومنعوا ازلام ميشال عون من وضع يدهم علي المفاصل الأساسية لشبكة الطرقات في بيروت والجبل. مارس اللبنانيون فيما كان يسمي المنطقة الشرقية فعل مقاومة حقيقيا عندما تصدوا للهجمة التي استهدفت فرض ثقافة الموت عليهم وعلي مناطقهم. كانت طهران أيضا وراء الاعتصام في وسط بيروت بغية شل الحركة الاقتصادية في البلد وتهجير أكبر عدد ممكن من اللبنانيين من بلدهم وتولت تغطية الإرهاب الذي استهدف الجيش اللبناني انطلاقا من مخيم نهر البارد الفلسطيني الذي سيطرت عليه عصابة "فتح الإسلام" السورية. من يتذكر كلام السيد حسن نصرالله الأمين العام ل"حزب الله" عن أن مخيم نهر البارد "خط أحمر"؟ لا يمكن للنظام الإيراني بعد كل ما استثمره في لبنان القبول بأقل من أن يكون شريكا في تشكيل الحكومة اللبنانية. استطاع الحزب يوم السابع من مايو 2008 السيطرة علي بيروت في غضون ساعات مؤكدا أنها مدينة إيرانية تطل علي المتوسط. واستطاع في الوقت ذاته تهديد الجبل الدرزي الذي قاوم جحافل الغزاة بكل بسالة. لكن الهلع ما لبث أن دب بالزعيم الدرزي وليد جنبلاط الذي أدرك أن مدفعية الحزب الإيراني تستطيع تهجير قري درزية بكاملها مجرد صدور تعليمات بذلك من طهران. يمكن اعطاء عشرات الأمثلة علي مدي التورط الإيراني في لبنان، ذلك أن ما سبق الإتيان علي ذكره في هذا المقال غيض من فيض يعتبر كافيا لإعطاء فكرة عن الهجمة التي يتعرض لها الوطن الصغير. أنها هجمة تصب في عملية التخلص من الصيغة اللبنانية وجعل المسيحيين والدروز في وضع يشبه إلي حد كبير وضع أرمن سوريا وأرمن إيران. أما أهل السنة، فيبدو مطلوبا تذكيرهم في كل وقت أن مرجعيتهم خارج لبنان، أي في دمشقوطهران وأن المدن الكبري التي يعيشون فيها تحت رحمة السلاح الإيراني وغير الإيراني وأن هذا السلاح أقوي من النتائج التي تخرج من صناديق الاقتراع. المسألة ليست إذا مسألة تشكيل حكومة. إنها تتعدي ذلك بكثير. أنه وطن يقاوم عودة الوصاية، وطن يستطيع أن يقول للنظامين السوري والإيراني إن ليس لديهما ما يقدمانه للبنان سوي تهديد السلم الأهلي فيه عن طريق قطع الطرقات بالإطارات المشتعلة وإثارة النعرات المذهبية والطائفية. أليس هذا النوع من التهديدات ذروة الإفلاس؟ هل من إفلاس أكبر من ذلك الذي نشهده حاليا في إيران نفسها حيث الشعب في واد والنظام في واد آخر؟ هل من إفلاس أكبر من ذلك الذي يعاني منه النظام السوري الذي لا يتجرأ قول كلمة في حق تركيا عندما تجري مناورات مشتركة مع الولاياتالمتحدة وإسرائيل فيما لا يجد حرجا في شن الحملات علي كل من يمتلك حدا أدني من الشعور الوطني في لبنان؟