بعد أن تقطعت بنا أسباب اللقاء المنتظم لظروف الإرهاق البدني، وصارت لقاءات نادرة بقيت تجمعنى به مع أ.د محمد زكى أستاذ الفيزياء بجامعة القاهرة، كان وفى بعض من الأحيان تجمعنى بهما جلسات أخرى مع عدد من العلماء المصريين. جمعتنى بالراحل الكبير أ.د.أحمد شوقى محبة الناس والشارع المصرى فى منطقة نصر الدين بالهرم، حيث كان يقطن العالم الجليل. ومع التقدم فى العمر بعد الثمانين كان ينتهز الفرصة كى يخرج للشارع الذى أحب وكان يهاتفنى كى نلتقى. وعلاقتى به بدأت بشكل شخصى وإنسانى بحت، إذ كان وكنت مثله من هؤلاء الذين يمارسون الكتابة فى بعض الأحيان بالمقهى. ثم توطدت العلاقة إلى صداقة قوية ومحبة صادقة من أستاذ كبير لفنان وكاتب بعيد كل البعد عن عالمه العلمي. وكان هو الداعم والمحفز الحقيقى لى كى لا أتأخر فى الترقيات العلمية لدرجة الأستاذية، وقد كان هو صاحب الخطط الدفاعية وفقاً لتجربته الجامعية الطويلة وإدراكه لمأساة هؤلاء الذين يجمعون بين العمل المهنى والأكاديمى معاً، وما يلاقونه من مصاعب عند التقدم لتلك الترقيات، وقد كان هو العقل الخفى الذى مكننى من عبور تلك الأسوار، وفقاً لقواعد الانتصار للجامعة على كل ما يريد استخدام القانون لأغراضه الشخصية. خلال تلك المرحلة التى تجاوزت العقد من الزمان تمتعت فيها بحكمته وإنسانيته الصافية ونقاشاته الثرية وحسه الساخر العميق، وصادفنا معًا عددًا من أهل نصر الدين الذين لا يعرفون القراءة والكتابة، لكنهم أنبغ فى سلوكهم الإنسانى وإدراكهم للحياة ومساندتهم للأصدقاء من كثيرين يحملون أرفع الشهادات العلمية. كان د.أحمد شوقى هو أحد مؤسسى علم الوراثة فى الجامعة المصرية، وكان ممن يمكن تسميتهم بالمثقف العضوى الفاعل، فقد كتب فى الحياة العامة وساند الاتجاه الصحيح لمسار التغيير فى مصر برؤى مهمة فى جريدة الأهرام الغراء، وفى عدد من المطبوعات المهمة مثل الشروق والوطن وغيرهما. وهو صاحب تعبير يناير والوجه المظلم للقمر، كان يراها كالقمر ولكنه كان يرى وجهها الآخر المظلم، وكان أ.د.أحمد شوقى عضواً لسنوات طوال باللجنة العلمية بالمجلس الأعلى للثقافة، وساهم بقدر ما استطاع فى نشر تلك الثقافة وتبسيط العلوم، ورؤية الحياة والناس والإيمان بالله عبر فهم علمى خاص، تقديراً واحتراماً لجوهر العلم، وهو خلال ذلك سعى لأداء فريضة الحج وأقام على صلاته وصيامه وزكاته ونصرة الحق سواء تجسد فى أشخاص أقوياء أو ضعفاء، بساطته المذهلة سر عظماء مصر. وقد أسعدنى بأن أصدر لى كراسة فى سلسلة كراسات علمية التى تصدر عن المكتبة الأكاديمية، والتى كان يترأس تحريرها فى علم الدلالة بعنوان «التلقى» وقد كان فخورًا بها فى إطار فهمه لجوهر ومعنى العلاقة الوطيدة بين العلوم الأساسية والعلم الاجتماعية وعلوم النقد والسياسة، وقد وضع بين يدى فى أبحاثى العلمية العديد من النماذج فى مبادرة العلوم الجديدة والناشئة التى يديرها الاتحاد الأوروبى ويمزج فيها بين العلوم والفنون. ولا أعرف لماذا لم أسجل بالكتابة حواراتى اليومية معه لسنوات، وقد كان اللقاء النهارى معه متعة للعقل والروح والوجدان. وقد حصل الأستاذ الدكتور أحمد شوقى حسن على دراسة تخصصية فى الوراثة الميكروبية فى ليننجراد، وطور بعدها كقامة مؤسسية برامج علم الوراثة فى كليات الزراعة فى الجامعة المصرية، وفى جامعة الزقازيق التى أخلص لها ومنحها عمره المهنى كله، ورفض مغادرتها ندباً أو انتقالاً، فى إخلاص نادر للزمالة والشراكة العلمية مع جيله والأجيال التالية.. وحديثى الخاص عنه هو رثاء يقف خلفه حزن كبير، إلا أن الرجل وإنجازه فى الجمع بين الثقافة العلمية والثقافة العامة والشأن العام، يستحق حقاً تكريماً يليق به وبأهل العلم. فما تركه من كتابات وإصدارات وتلاميذ صاروا أساتذة كبار ومنهج حياته، والعطاء الوطنى فى كافة المجالات ذات الصلة وحرصه على الرحيل الوقور المتقرب إلى الله واكتمال التجربة الإنسانية والرضا وسعادة التحقق عبر العمل العلمى والوطنى المنتظم بلا ضجيج، وبعيداً عن المكاسب والسعى للشهرة لهو درس لكل هؤلاء الذين نشروا النور فى صمت، وهو إشارة جديرة لنا كى نكرم العلماء ونضعهم فى صدارة المشاهد الإعلامية كنموذج للأجيال الجديدة. رحم الله العالم المصرى الجليل الأستاذ الدكتور أحمد شوقى وأسكنه فسيح جناته.