القرآن الكريم نزل بمكة وكُتب فى العراق وقُرئ فى مصر، لذا استحقت المحروسة أن تكون بحق «دولة التلاوة»، التى هادت العالم بحناجر ذهبية صدحت بأصواتها فأطربت المسامع، وتجلّت بمقامات تقشعر لنغمها الأبدان، لذا ترصد لكم جريدة «روزاليوسف» يوميًا فى رمضان، قصص أصحاب الحناجر الذهبية من القُراء المصريين الذين جابت أصواتهم العالم ولا تزال. ارتبط صوت «المعجزة» و«قيثارة السماء» الشيخ محمد رفعت بشهر رمضان عند تلاوته الصباحية والمسائية قبيل صلاة المغرب بنحو أربعين دقيقة كاملة، لم تتوقف نفحات الشيخ عند التلاوة فقط، بل امتدت لرفع الأذان بصوته العذب الذى يميزه الصغير قبل الكبير، رغم مرور أكثر من 6 عقود على رحيله. فى حى المغربلين بالقاهرة ولد الشيخ الراحل يوم 9 مايو عام 1882، فقد بصره وهو فى سن الثانية من عمره بعد أن أصيب بمرض مجهول بعينه، والتحق بكُتاب مسجد «فاضل باشا» بدرب الجماميز، حفظ القرآن الكريم ثم المقامات الموسيقية على يد شيوخ عصره، حتى توفى والده محمود رفعت مأمور قسم شرطة الخليفة وهو فى التاسعة من عمره، فوجد الطفل اليتيم نفسه مسئولًا عن أسرته وأصبح عائلها الوحيد، فلجأ إلى القرآن يعتصم به، ولا يرتزق منه، ثم تولى القراءة بمسجد فاضل باشا وهو فى سن الخامسة عشرة، فبلغ شهرة ونال محبة الناس. وافتتح الشيخ رفعت بث الإذاعة المصرية سنة 1934، بقوله تعالى «إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا»، ولما تناهت شهرته لهيئة الإذاعة البريطانية «بى بى سى» طلبوا منه تسجيل القرآن، فرفض ظنًا منه أنه حرام لأنهم غير مسلمين، فاستفتى الإمام المراغى فشرح له الأمر وأخبره بأنه غير حرام، فسجل لهم سورة مريم. كان الشيخ رفعت رحيمًا رقيقًا، ذا مشاعر جياشة عطوفًا على الفقراء والمحتاجين، حتى يقال إنه كان يطمئن على فرسه كل يوم ويوصى بإطعامه، ويروى أنه زار صديقًا له قبيل موته، فقال له صديقه من يرعى فتاتى بعد موتى، فتأثر الشيخ بذلك وبات ليلته ثم قرأ فى اليوم التالى سورة الضحى وما إن وصل إلى قوله تعالى «فأما اليتيم فلا تقهر» حتى أخذ فى البكاء بعد أن تذكر قول صاحبه فخصص مبلغًا من المال لابنته إلى أن تزوجت. فى عام 1943 أصيب الشيخ محمد رفعت بمرض سرطان الحنجرة، الذى كان معروفًا وقتئذ «بمرض الزغطة» وتوقف عن القراءة حتى وفاته فى 9 مايو عام 1950، اعتذر صاحب الصوت الملائكى بكل عزة وفخر عن قبول أى تبرعات عرضها عليه الملوك والرؤساء لسداد تكاليف علاجه التى لم يكن يمتلكها قائلًا: «إن قارئ القرآن لا يهان». رحل الشيخ وبقيت تسجيلاته القرآنية تملأ الدنيا خشوعًا وإيمانًا وتجسيدًا لمعانى القرآن الكريم.