فى مبادرة جديدة لمركز الإبداع تحت إشراف المخرج خالد جلال أنتج مؤخرًا صندوق التنمية الثقافية على خشبة مسرحه العرض الجديد «مشاحنات» للمخرج هانى عفيفى؛ يعتبر العرض إحدى مبادرات المركز لتقديم عمل يضم خريجى ورش استديو مركز الإبداع الفنى بأقسامه المتنوعة, حيث شارك فى بطولة العرض من دفعاته السابقة ريم حجاب؛ سهام عبدالسلام؛ هند حسام الدين وديكور وأزياء مروة عودة؛ إعداد وإخراج هانى عفيفى. «مشاحنات» مأخوذ عن النص الإنجليزى «المتنازعتان» للكاتبة الإنجليزية كاترين هايس ترجمة الدكتور هناء عبدالفتاح؛ وهو عمل إنسانى بالدرجة الأولى؛ بقدر ما يحمله من ألم وأسى بقدر ما يوحى ويترجم واقعًا معاصرًا نلمسه ونحياه؛ وهو ما يعكس مدى وعى المخرج بالزمن فى منطق اختياره للنص المسرحى؛ فهو رجل مدرك لقيمة ما يقدم من عمل فنى متوائم مع زمن إنتاجه وليس مجرد اختيار لنص جيد دون اعتبار لآنية أحداثه؛ نسمع ونطالع يوميًا الكثير عما تشهده العلاقات الإنسانية بين أقرب الأقربين من تطاحن وصراع وأحيانًا جحود الأبناء للآباء بسبب سيطرة وضغط الظروف الاجتماعية التى تجعل الحب يتوارى ويتلاشى فيما بيننا؛ وقد لا ندرك مدى حبنا لبعضنا البعض إلا بعد أن يمضى الوقت بفقد ورحيل من نحب! العرض يتناول قصة أم طريحة الفراش أعياها المرض؛ أفقدها القدرة على الحركة والنطق والتواصل مع العالم إلا من خلال نظرات عينيها الزائغتين البائستين؛ تبدو أحيانًا راغبة فى التحدث بهمهمات غير مفهومة وكلمات غير مترابطة؛ يمنعها العجز؛ فتعود لتفقد الوعى من جديد؛ وبين هذه الحالة الموجعة من حال أم تصارع الموت؛ تأتى الأخت الصغرى فى زيارة خاطفة حتى تطل على أمها البائسة وتخبر أختها التى دام انتظارها لها؛ بأنها لن تستمر طويلًا لأن زوجها وأبناءها فى حاجة إليها؛ يبدأ الصراع والشجار بينهما وتستعرض كل منهما وضعها التعس؛ الأولى تعيش بين جدران المنزل متفانية فى خدمة الأم؛ وفى انتظار زوجها الغائب مع حزنها لعجزها عن الإنجاب؛ بجانب إرهاقها من خدمة أمها بمفردها؛ ثم تلقى بالاتهام على الأخت الصغرى التى تحيا هانئة بعيدًا ولا تفكر فى شيء سوى نفسها والرجل الذى اختطفته من زوجته حتى تضمن لنفسها حياة مستقرة؛ ثم الدائرة المفرغة التى تعيش فيها الأخت الكبرى بتمنى وفاة والدتها حتى تنتهى هذه المشقة والعذاب الطويل. يبدو العمل عارضًا لحالة من الجحود الإنسانى الشديد بين الإخوة وكراهيتهم لما آل إليه وضع الأم المريضة التى تحاول كل منهما أن تلقى بمسئولية خدمتها على الأخرى؛ حتى تتنصل من مشاعر الذنب؛ إن كان العمل يبدو كذلك فى معناه الظاهرى إلا أنه مبطن بمزيج من مشاعر الحب والكراهية والخوف؛ الحب الذى أصبحنا نفتقده اليوم ويبقى كامنا داخلنا ولا نراه إلا وقت الضيق والشدة أو وقت وقوع الكارثة؛ حينما تتوفى الأم بشكل مفاجئ رغم ما بدا عليهما من حالة تمنى وتعجل دائم لوقوع الموت؛ إلا أنهما فى لحظة فارقة تهتزان لجلال لحظة رحيلها ومفارقة الحياة؛ تبدو فى تلك اللحظة مشاعر الحب والشفقة والهزة والخوف من الفقد؛ بعد كل ما شهدناه من صراع وشجار طويل تمحوه لحظة شجن تتفجر معه كل تحمله عاطفة الحب من ألم الفراق؛ نص موجع قاس فى معالجته لقصة ربما تتكرر كثيرا فى عائلات متفرقة فى هذا الزمن الصعب؛ نظرًا لضغوط المادة والحياة الاجتماعية التى أفقدت الناس الالتفات لحقيقة مشاعرهم تجاه بعضهم البعض, عمل شديد الدقة والتعبير عن مجتمع أفقدته المادة الحد الأدنى من الشفقة والرحمة. استطاع المخرج هانى عفيفى بمعالجته المسرحية الناعمة؛ أن يؤلمنا بسلاسة الطرح ونعومة فنية فى التعبير؛ ليترك داخل جمهوره أثرًا بليغًا فى نقل أدق تفاصيل هذه المشاعر المدفونة داخل كل أبطال العمل؛ بإضاءة هادئة حملت الكثير من الكآبة والشجن؛ وديكور غرفة موحشة خيم عليها رائحة الموت والمرض؛ حبست داخلها الأم والأخت معًا لأيام طويلة؛ ثم الإعداد الموسيقى لأغنية فرانك سينترا "إذا رحلت بعيدا" كل هذه العوامل غلفت العمل بحالة إنسانية حملت المزيد من الأسى والشجن وأحيانًا الشفقة على حياة هؤلاء التعساء رغم قسوة مشاعرهم تجاه بعضهم البعض؛ نجح المخرج فى إعداده للنص الإنجليزى بإخراج الجمهور فى حالة من المشاعر المختلطة بين الاحتقار لهما من شدة انشغالهما بالمظاهر والماديات والمتع الزائلة فى انتظار حادث الوفاة لهذه السيدة المغلوبة على أمرها حتى أن إحداهن تفكر ماذا ستكتب على موقع التواصل الاجتماعى "فيس بوك" بعد الوفاة وكيف ستكتب حتى تكتسب أكبر قدر من التعاطف بإعلان خبر وفاة والدتها؛ شغلتها الصيغة التى ستعلن بها وفاة أمها وهو ما يعكس شدة انشغال مجتمعنا باستعراض أحواله وأحداث حياته أمام الناس؛ ثم مشاعر الشفقة عليهما من شدة ما عانت كل منهما من ظروف اجتماعية وإنسانية قاسية ربما خلقت حالة من الجفوة والبغضاء بينهما؛ جفت المشاعر فى لحظات الاهتمام بالمادة والمظاهر الاجتماعية؛ لكن برزت المحبة واللهفة فى لحظة حاسمة برحيل الأم؛ انسياب ونعومة شديدة ووعى بكل لحظة من لحظات العرض أتقنها المخرج حتى يخرج جمهوره من قاعة المسرح محملًا بمرارة وفيض من المشاعر المختلطة. بالطبع كان للممثلات الفضل الكبير؛ فى نقل هذه الحالة الشعورية الصعبة والثقيلة على الحضور؛ أتقنت وأبدعت كل واحدة منهن فى تقديم شخصيتها باحتراف وتأن كبير؛ تأتى ريم حجاب على رأس القائمة فى دور الأخت الكبرى التى أشقاها العمل على خدمة أمها ثم تأديتها له بحالة من التفضل والمن على الأم بهذه الخدمة؛ ونقمتها على الأخت الصغرى باستمرارها فى تحمل المسئولية الضخمة التى ألقيت على عاتقها. لعبت ريم شخصية تحمل الكثير من الأبعاد النفسية والصراع الداخلى؛ كانت على وعى بحالة هذه الفتاة البائسة التى تضمر داخلها مزيجًا من البغض والسخرية والتهكم من وضع الأم الذى لا يتغير وأمنيتها وتعجلها بوقوع الوفاة؛ وبين ألمها من الوحدة والشكوى من غياب الزوج وولعها بالمنزل الذى ستفوز به بعد الوفاة؛ كل هذه العوامل جعلت من هذه الفتاة شخصية غير متزنة نفسيا؛ هذا الخلل النفسى الشديد استوعبته حجاب بوعى واقتدار بأداء هذه الشخصية غير السوية فى لحظات الصمت والسكون والغضب والبوح؛ ثم لحظة النهاية وظهور لهفتها بعد وقوع الوفاة بشكل مفاجئ لها رغم أنها طالما انتظرته وتوقعته؛ منحت العرض حالة من الثقل الفنى حيث اجتمعت كل المشاعر وتمركزت لديها؛ ثم جاءت هند حسام الدين لتستقبل مشاعر هذه الأخت الناقمة الغاضبة بحالة من البرود واللا مبالاة الشديدة وأحيانًا الحزن والشعور بالذنب بأداء هادئ رصين؛ لعبت هند دور الأخت الصغرى الأنانية من وجهة نظر أختها المشحونة بمشاعر مختلطة ومتفجرة بمهارة المحترفين. كما كان للسيدة الكبيرة سهام عبد السلام الفضل فى تقديم دور هذه الأم الصامتة طوال العرض؛ العاجزة عن التعبير بالكلمات لكنها وبخبرة ممثلة قديرة لعبت دور الأم طريحة الفراش ببلاغة شديدة فى لحظات صمتها كان لوجهها وحركة جسدها المرتجف طوال العرض تعبير أبلغ من الكلمات؛ ربما حدثتهما عن حزنها وغضبها وكل ما يجول بخاطرها بلغة جسدها النافر ووجهها الغائب عن الوعى؛ وبالتالى كان عرض «مشاحنات» مشحونا بطاقات تمثيلية كبيرة فى تجربة مسرحية قصيرة استمرت 15 يومًا فقط؛ ومن المقرر إعادته مرة أخرى خلال شهر أغسطس المقبل ليمتعنا عفيفى وفريق عمله من جديد بحالة مسرحية إنسانية استثنائية على خشبة مركز الإبداع؛ من النادر أن يترك عمل مسرحى أثرًا نفسيًا عميقًا لدى جمهوره؛ ويستمر هذا الأثر فى كل مرة تتذكر فيها أحداثه أو أحد جمله الحوارية الموجعة! 2