«تحية لك يا حعبى، أخرج من هذه الأرض واحضر لتهب مصر الحياة، إنك تخفى مجيئك فى الظلمات، وتغطى أمواجك البساتين، أنت واهب الحياة لكل ظمآن..هكذا قدس المصرى القديم النيل، واعتبره مصدر الحياة، لدرجة أنه احتج فى الآخرة أنه لم يلوثه أو يسده أو يعطل جريانه. حيث قال حسام زيدان الباحث الأثرى وعضو مؤسس فريق سراديب للوعى الأثرى أنه فى النصوص المصرية القديمة التى تمثل المحاكمة فى الحياة الآخرة، وضمن الكلمات التى يقولها المتوفى لكى يدلل على أنه من الصالحين، كلمة «لم ألوث النيل أو أعطل جريانه». وقد نقل لنا المؤرخون العرب بعض مظاهر الاهتمام بالنيل والتى وصلتهم رواياتها عن المصريين، وكان أهم تلك المظاهر هى بناء المقاييس التى تحدد مستوى المياه فى النيل والتى تعتبر بشرى بوفائه أو نذيرا بجفافه لا قدر الله. وتشير المصادر العربية إلى العديد من المقاييس التى أنشئت فى مصر بعد الفتح منها مقاييس عمرو فى أسوان ودندرة، ومقياس أنصنا من إنشاء معاوية بن أبى سفيان، ومقياس عبدالعزيز بن مروان فى حلوان 80 ه، ومقياس جزيرة الروضة بناه أسامة بن زيد بأمر من الوليد بن عبد الملك عام 92 ه،وأقام بن زيد مقياس آخر بعد إبطال العمل بالأول عام 97 ه. وفى عام 247 ه أمر الخليفة المتوكل على الله العباسى، ببناء المقياس الحالى الموجود فى جزيرة الروضة، والذى إلى جواره قصر المانسترلي، ومتحف أم كلثوم، وهو المقياس الوحيد الباقى، ويُعد اقدم أثر إسلامى فى مصر، وعُرف بالمقياس الهاشمى أو الكبير أو مقياس الروضة. وقال زيدان: مهندس المقياس كان حوله خلاف كبير بين علماء الآثار، وحسب رواية ابن خلكان فهو أحمد بن محمد الحاسب، ولكن ذكرت بعض المصار أن مهندس المقياس عراقى تم استقدامه خصيصًا لبنائه، واسمه محمد بن كثير الفرغاني، وقيل أنه ابن كاتب الفرغانى وكان قبطيًا.. وكريسويل رجح أن الشخصين ماهما إلا شخص واحد «محمد بن أحمد الحاسب، وابن كثير الفرغاني» كما نفى أن يكون الفرغانى قبطيًا، إذ أن -حسب كريسويل- الرجل ينتسب إلى فبيلة فرغانة والتى كانت جزءً من أعمال فارس، أوزبكستان حاليًا، فلا يمكن أن يكون قبطيًا، وحسب ما توصلت إليه آخر الأبحاث فإن مهندس المقياس هو الفرغانى وله تمثال فى مدخل مقياس النيل إلى جانب قصر المانسترلى. وأشار المؤرخ ابن خلكان إلى النص الكتابى الذى كان يحمل اسم الخليفة المتوكل وتاريخ 247ه، وهذا النص فُقد أثناء إصلاحات أحمد بن طولون على المقياس، وهذا النص لم يذكر اسم المهندس صراحة، ومن المرجح أن أحمد بن محمد الحاسب كان المشرف على البناء وليس المهندس، فهو أحد مشاهير علم الحساب، صاحب كتاب الجمع والتفريق. ومقياس الروضة عبارة عن عمود رخامى مثمن الشكل، طوله 19 ذراعاً، ومدرج بحفر علامات عليه بالأذرع والقراريط،والعمود يعلوه تاج روماني، ويتوسط بئر، وتصميم هذا البئر عبقرى، حيث تم تصميمه من أسفل إلى أعلى بشكل يناسب وظيفته تمامًا، فتم عمل قاعدة للعمود من جذوع النخل، الذى يشارك فى حفظ توازنها، ثم بناء بئر حول العمود من 3 مستويات، المستوى الأول دائرى، وهو الأضخم، ثم يليله مستوى أعلى أقل سمكًا، وهو مربع الشكل، ثم مستوى أخير مربع من سمك أقل، وهذا التصميم يجعلنا ندرك أن المهندس كان مدركًا لهندسة البناء تحت ضغط الأتربة وكيف يجعل المبنى يقاومها.