هذا الأسبوع كانت قضية دعم دولة السودان لتجاوز الفترة الانتقالية التى يعيشها، والدعم الاقتصادى للقارة الإفريقية خصوصا الدول المتضررة من جائحة كورونا، حاضرة على الساحة الدولية مع انعقاد مؤتمرى باريس الاقتصاديين لدعم السودان والدول الإفريقية، بمشاركة مصرية مؤثرة بالأخص مع نجاح التجربة المصرية للإصلاح الاقتصادى، والتى باتت ملهمة لباقى الأشقاء بالقارة السمراء. المشاركة المصرية الرفيعة بحضور الرئيس عبدالفتاح السيسى، وما تعكسه من ثقل مصرى على الصعيد الإفريقي، تترجم جهدًا مصريًا مستمرًا لدعم المرحلة الانتقالية فى السودان ومساند لقضايا السودان على الصعيدين الإقليمى والدولي، وفق مبدأ ثابت وهو أن أمن واستقرار السودان جزء لا يتجزأ من أمن واستقرار مصر. لكن يبقى الأهم فى مؤتمرى باريس هى النتائج، فكل ما طرح من مبادرات وبرامج للدعم الاقتصادى، تشكل فرصا حقيقية للاستثمار فى سوق واعدة. من هنا تأتى الأهمية الاستراتيجية لما تشهده العلاقات الثنائية بين القاهرةوالخرطوم من قفزات متسارعة نحو التكامل والشراكة الاستراتيجية، وهو ما بدا فى التنسيق وتوحيد الرؤى بين البلدين فى ملفات حيوية وخصوصا ملفات المياه والتعاون الأمنى والعسكرى والتبادل التجارى والدعم الإقتصادي، كلها ملفات تشكل محورا اقتصاديا وتجاريا بمنطقة «وادى النيل» يستفيد منه الشعبان.
جاء انعقاد مؤتمر باريس الاقتصادى فى توقيت مهم للسودان، ذلك أن الخرطوم تعيش أزمة اقتصادية بشكل تواجه فيه حكومة د. عبدالله حمدوك الانتقالية تحديات أساسية منها نقص السلع الأساسية مثل الخبز والوقود والكهرباء، فضلا عن ارتفاع معدلات التضخم لأكثر من 240% وتراجع قيمة الجنيه السودانى مقابل الدولار، وتراكم الديون الخارجية لحوالى 56 مليار دولار، حسب وزير المالية السودانى. مع هذا الوضع الاقتصادي، يأتى اختلاف مؤتمر باريس عن مؤتمرى برلين ومؤتمر أصدقاء السودان بالسعودية، من حيث تركيزه على الاستثمار ودعم الاقتصاد، وإن كانت الحكومة الانتقالية بالخرطوم تستهدف تكرار تجربة المؤتمرات الدولية؛ للخروج من العزلة والانفتاح على العالم بمؤتمرات مماثلة فى واشنطن واليابان وفى الخليج خلال الأشهر المقبلة. لكن رسالة مؤتمر باريس، كما قال الأمين العام للأمم المتحدة أنتونيو جوتيرش إنه يعكس الإرادة الدولية لدعم السودان، خصوصا بعد رفع اسم السودان من قوائم الإرهاب والانفتاح على مؤسسات التمويل الدولية، فضلا عن حجم المشاركة حيث وصلت لحوالى 300 شركة فرنسية وأوروبية. أما حديث الأرقام، فهناك عديد من المكاسب التى تحققت، فقد حصلت السودان على تعهدات وإعفاءات من ديون ثنائية بقيمة 30 مليار دولار، بداية من إعلان الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون اسقاط ديون بلاده بقيمة 5 مليارات دولار، ونفس الخطوة أعلنتها كل من النرويج بقيمة 4.5 مليار دولار والسعودية بقيمة 5 مليارات دولار.
110 مشروعات للاستثمار
كما خصص البنك الدولى منحة بقيمة 2 مليار دولار، وقدمت فرنسا قرضا تمويليا بقيمة 1.5 مليار دولار، وقدم بنك التمويل الإفريقى 700 مليون دولار، وأبدت كل من الولاياتالمتحدة الأميركية والسويد وإيطاليا استعدادها لتقديم منح لتغطية النواقص فى متأخرات الديون والمقدرة بنحو 13 مليار دولار بما فيها الفوائد والغرامات الجزائية. ولعل السؤال هنا، هل المستهدف هو جمع منح وقروض لدعم السودان فى مؤتمر باريس؟ استفهام حرص رئيس وزراء السودان ربما أجاب عنه بأنهم جاءوا لتقدم الفرص الاستثمارية فى السودان وليس لجمع التبرعات والمنح، ذلك أن حكومة حمدوك استبقت المؤتمر بعدة إجراءات للإصلاح الهيكلى للاقتصاد منها تحرير سعر صرف الجنيه السودانى وإصدار قانون جديد للاستثمار وإعداد حزمة من المشروعات التى يمكن الاستثمار بها. وفقا لوزير الاستثمار السودانى الهادى إبراهيم، قدمت الحكومة السودانية مما يزيد علي 110 مشروعات فى 4 مجالات رئيسية هى التعدين والطاقة خصوصا الكهرباء لانتاج ما يزيد علي 4 آلاف ميجا وات، وقطاعى الثروة الحيوانية والزراعة. ليس هذا فقط، بل قدمت الحكومة السودانية مشروعات جديدة منها مشروعات زراعية تقدر بحوالى 2500 فدان، ومشروعات النقل والبنية التحتية خاصة الطرق والسكة حديد والجسور الى جانب تأهيل الموانئ وانشاء موانئ جديدة.
الدعم المصرى
خلال هذه التطورات والفعاليات، أكدت الدولة المصرية التزامها ومبدأها الثابت بدعم أمن واستقرار السودان وبرهنت على مبدأ التكامل والشراكة بين البلدين بعدة إجراءات مهمة أعلن عنها الرئيس عبدالفتاح السيسى خلال مشاركته بالمؤتمر، بداية من مشاركة مصر فى المبادرة الدولية لتسوية مديونية السودان من خلال استخدام حصة مصر لدى صندوق النقد الدولى لمواجهة الديون المشكوك بتحصيلها، وهى خطوة تعكس إرادة الدولة المصرية للتعاون ودعم السودان. الأمر الآخر هو حرص الدولة المصرية على نقل التجربة المصرية فى الإصلاح الاقتصادى وتدريب الكوادر السودانية، وهذا ليس وعدا بل أمر واقع يتم تنفيذه بالفعل، بدليل الزيارات المتبادلية بين مسئولين اقتصاديين بالبلدين كان آخرها زيارة وزير المالية المصرى د. محمد معيط للخرطوم أول إبريل الماضى لاستعراض محاور تجربة الاصلاح الاقتصادى المصري. هذا بالإضافة لعدد من المشروعات الكبرى المشتركة، وعلى رأسها مجال النقل خاصة من خلال مشروع ربط السكك الحديدية بين البلدين الذى سيمتد بطول 900 كيلو متر، وسيربط البلدين عبر مدينة وادى حلفا شمال السودان، ومشروع الربط الكهربائى بين البلدين والجارى زيادة قدرته من 80 ميجاوات وصولا إلى 300 ميجاوات، وغيرها من سبل التعاون فى مجالات النقل الجوى والبرى والنهرى والبحرى، والتعاون فى مجال الصحة، والمنح التدريبية المقدمة للأخوة السودانيين فى هذا المجال، والقوافل الطبية المصرية المتخصصة، وتعزيز استفادة السودان من مبادرة الرئيس عبدالفتاح السيسى لعلاج مليون إفريقى من فيروس سي. وعلى الجانب التجارى تسعى القاهرةوالخرطوم لتطوير التجارة، خصوصا أن حجم التجارة بين البلدين بلغ العام الماضى نحو 862 مليون دولار، منها 496 مليون دولار صادرات مصرية للسودان، و366 مليون دولار واردات، تضمنت منتجات الكيماويات والمنتجات المصنعة والآلات والمعدات والمواد الغذائية والمنسوجات ووسائل النقل والحيوانات الحية والمنتجات الزراعية.
ضمانات مصرية للإصلاح
ومن منطلق أن برامج الدعم الاقتصادى ليست وحدها كافية للإصلاح، فلابد من مناخ سياسى وأمنى داعم للاستقرار الداخلى بما يضمن توافد الاستثمارات الخارجية وبرامج التمويل الدولي، وهى رؤية تحدث الرئيس السيسى عنها فى كلمته وعدد نقاط مهمة لدعم المرحلة الانتقالية فى السودان وهي: - التوافق الوطني: بحيث تقود الأطراف السودانية نفسها لكافة جهود إحلال السلام والاستقرار على أراضيها، طبقاً لتوافق وطنى شامل، لعل أحد شواهده اتفاق السلام الذى وقع فى أكتوبر الماضي. - دعم المؤسسات الوطنية: حيث أشار الرئيس السيسى إلى أن التحديات التى واجهتها العديد من البلدان فى منطقتنا خلال الفترة الماضية أثبتت أن بناء دعائم الدولة ومؤسساتها المختلفة على أسس قوية وسليمة، خاصةً الجيش الوطنى الموحد، الذى يعتبر الركيزة الأساسية لضمان السلام والاستقرار. - المواطنة: إعلاء المواطنة بناءً على توافق وطنى يشمل أبناء السودان كافة، هو أحد الضمانات الأساسية للحفاظ على النسيج الواحد للشعب السودانى والتصدى لمحاولات بثّ الفرقة والانقسام. - دعم الأمن: بفرض السودان سيطرته الأمنية عل كافة أراضية دعما للاستقرار، استنادا إلى قواعد القانون الدولى والاتفاقيات الدولية ذات الصلة ومنها اتفاقية عام 1902، وأشار الرئيس السيسى لهذه الإتفاقية، والتى تحدد التعامل بشأن الحدود المشتركة بين السودان وإثيوبيا والتى تشهد نزاعا وتوترا عسكريا فى الفترة الأخيرة. - الأمن المائي: وهو من الملفات الحيوية والمشتركة ما بين مصر والسودان، وأشار الرئيس السيسى فى هذا الصدد بأن نهر النيل يمكن أن يمثل ركيزة لتعاون أشمل بين دول حوض النيل إذا ما توافرت الإرادة السياسية لدى الجميع، بحيث يتم تحقيق التنمية المنشودة دون الإضرار بأى طرف، بما يعزز الاستقرار فى المنطقة. - دعم الشركاء الدوليين: حيث أكد الرئيس السيسى على ضرورة دعم شركاء السودان ومساندة برنامجه الاقتصادى والتخلص من ديونه وتخفيف أعبائه التمويلية.
سوق واعدة للاستثمار
الخريبى: 25 مليار دولار مشروعات بنية تحتية وتنموية تحتاجها السودان
اعتبر الدكتور شريف الخريبي، الخبير الاقتصادى وعضو المجلس المصرى للشئون الخارجية، أن مستوى العلاقات المصرية الفرنسية، سيساهم فى انجاح نتائج مؤتمر باريس لدعم السودان اقتصاديا، وأن فرنسا لديها رغبة للانفتاح على السوق الإفريقية. وقال فى تصريحات ل»روزاليوسف»، باعتباره أحد الخبراء الاقتصاديين الذين شاركوا فى وضع تصور لمشروعات البنية التحتية التى يحتاجها السودان، أن التعاون المصرى الفرنسى لدعم الحكومة الانتقالية بالسودان ظهر بشكل عملى فى هذا المؤتمر، خصوصا أن السودان أحد أهم مصادر إنتاج الغذاء فى القارة الإفريقية. وأضاف الخريبى أن السوق السودانية واعدة جدا للاستثمار، حيث تقدر حجم المشروعات المطلوبة هناك ما بين 25 و 35 مليار دولار، مشيرا إلى أنه شارك فى عمل تصور لمشروعات البنية التحتية المطلوبة فى السودان سواء كانت الطرق أو مرافق داخل مدن مثل شبكات الصرف الصحى والمياه ومحطات تنقية المياه ومعالجتها وأيضا بالنسبة لخطوط المد الكهربائي. وقال إن المشكلة التى تواجه الحكومة السودانية، هو كيفية توفير مصدر هذا التمويل لهذه المشروعات، ولكن فى ضوء القدرات والإمكانيات الغذائية التى تمتلكها السودان يمكن حلها من خلال نموذج للتعاون الثلاثى بين الشركات المستثمرة والتى تنفذ المشروعات. وأشار إلى أنه كانت هناك لجان مشتركة بين الحكومة المصرية والسودانية قبل مؤتمر باريس، وتم الاتفاق على مجموعة محددة من المشروعات سواء فى مجال البنية التحتية أو فى مجال المشروعات الاستثمارية الذى سيتم دعوة المستثمرين الفرنسيين أو من الخارج للاستثمار المباشر فيها. وأشار إلى أن الشركات المصرية سيكون لها مردود ايجابى حيث ستشارك فى تنفيذ مشروعات البنية التحتية لما لديها من خبرات متراكمة وكبيرة فى هذا المجال.