قبل 15 عاما.. كنا في الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين، نجلس إنصاتا لسماع كلمة أرسلها لنا الأستاذ «محمد حسنين هيكل».. مضي الصديق «يحيي قلاش» قارئا للكلمة، حتي جاء عند جملة قال فيها: «إنها أزمة سلطة شاخت فوق مقاعدها».. لتدوي القاعة بالتصفيق لعدة دقائق.. أراد الأستاذ «هيكل» التأكيد علي أن أزمة الصحفيين مع النظام، ترجع إلي أنها أزمة النظام وحده الذي سافر بعيدا عن الشعب والوطن.. بل سافر بعيدا عن الزمن الذي نعيش فيه! عاش النظام بعدها أقل من 15 عاما.. ثم انهار خلال 18 يوما فقط.. وكان أن تسلم المسئولية المجلس الأعلي للقوات المسلحة، بعد أن كلفه المخلوع بإدارة شئون البلاد.. الهتاف كان يدوي في الشوارع وعبر الفضائيات والإذاعات.. بل إن الصحف نقلت.. أو قل هتفت أيضا «الجيش والشعب إيد واحدة».. ومن فرط ثقة هذا الشعب في قواته المسلحة.. غادر الجميع الميادين بعد احتفال مهيب شهد عليه وله العالم.. ومضينا نري ما يحدث حولنا.. لاحظنا أن حكومة الفريق «أحمد شفيق» التي أراد بها «مبارك» خداع الأمة.. يمكن أن تستمر في مواقعها.. هنا عاد الشعب إلي الميادين.. سقطت حكومة الفريق «شفيق» وبأداء مسرحي – خبيث – فيه إتقان.. تم تقديم الدكتور «عصام شرف» عضو الأمانة العامة للسياسات كرئيس للوزراء.. وتمت عملية تغليفه وتعبئته وبيعه للوطن، علي أنه رئيس الوزراء الذي اختاره الثوار.. فما كان منه إلا أن استدعي كل من شاخوا علي مقاعدهم.. انطلت الخدعة علي الأغلبية.. كانت هناك أقلية تفهم ما يحدث حولها.. حاولت أن تكشف الحقيقة وتحاول إبطال الألغام التي أحاطوا الثورة والثوار بها.. لكن الموسيقي التصويرية لهذا الفيلم الهابط، كانت صاخبة للحد الذي جعل الجميع لا ينصتون لصوت من يحذرهم.. وللحقيقة أن تأييد جماعة الإخوان المسلمين لكل من المجلس الأعلي للقوات المسلحة ولحكومة الدكتور «عصام شرف» كان تأييدا مطلقا.. بل قل إنهم وقعوا لهما علي بياض.. ففي هذا الوقت كان الاتفاق السري تجري مناقشته تمهيدا للتوقيع عليه بالأحرف الأولي! السلطة التي شاخت فوق مقاعدها عند العام 1996.. سقطت في مطلع عام 2011.. وبقي منهجها ورجالها وأفكارها وفسادها ضاربا بجذوره في الأعماق.. حاولت أن تجدد نفسها وشبابها.. لكن الشباب الحقيقي في الوطن خرج للشوارع معلنا الرفض الحاسم.. سقطت حكومة «شرف» فكان استدعاء – زين الشباب – الدكتور «كمال الجنزوري» رئيسا للوزراء.. ومعلوم بالضرورة أنه شاخ في منزله لأن «مبارك» أبعده من دائرة نظامه قبل أكثر من 12 سنة.. فالحكاية تتكرر رغم تغيير الأسماء.. سلطة شاخت فوق مقاعدها.. تسلم السلطة إلي أخري شاخت فوق مقاعدها.. فيتم استدعاء كل من شاخوا فوق مقاعدهم أو في منازلهم! الحكاية باختصار أن نظام «المخلوع» الذي عاش بعيدا عن الشعب وبعيدا عن الوطن وخارج الزمن.. مازال يعيش في الوضع والأجواء ذاتها.. ومن هنا فوجئنا بأننا ندور حول أنفسنا.. فالشباب الثائر بينه وبين السلطة فارق توقيت كبير جدا.. فالليل عند السلطة التي شاخت فوق مقاعدها.. هو نهار عند الشباب الرافض لتلك السلطة.. الشتاء عند السلطة التي شاخت فوق مقاعدها.. هو صيف عند الشباب المتطلع للمستقبل.. وبقي الخريف كاحتياطي استراتيجي للسلطة التي شاخت فوق مقاعدها.. ومن سخرية القدر أنهم أطلقوا علي هذا الخريف «اللهو الخفي»! الدماء تجري أنهارا منذ 25 يناير 2011.. ولم تتوقف حتي وصلنا إلي ليلة ذكري موقعة الجمل.. فكانت مجزرة بورسعيد علي أرض ملاعب خضراء.. وفي كل موقعة كان الشباب الواعي والمحترم والمتعلم، هو الذي يسقط ما بين قتيل وجريح أو فاقد للبصر! أما جيش البلطجية فهو يمضي لتأدية مهامه بانضباط غير طبيعي.. فلم نسمع عن بلطجي واحد سقط قتيلا أو فقد عينيه.. أخطرهم يتم القبض عليه سلميا.. ويظهر علي الشاشة وفوق صفحات الجرائد، لتتم عملية زفافه علي أنها برهان يؤكد قوة السلطة.. وبعد السقوط لا نسمع عن البلطجي المحترف أي شيء.. أما الشباب الذين يتم خطفهم واعتقالهم ومحاكمتهم، فهم يتعرضون لأبشع حملات التشويه والتدمير البدني والنفسي والإنساني أمام الرأي العام. المعركة إذن أصبحت واضحة المعالم.. فالسلطة التي شاخت فوق مقاعدها ترفض رفع الراية البيضاء.. والشباب الذي أسقط رأس السلطة يتمسك بالاعتزاز بإنجازه ووطنه ومستقبله.. أعلن التحدي رافضا رفع الراية البيضاء.. لتتحول المسألة إلي صراع بين إرادتين.. إرادة تملك قوة النفوذ والمال القائم علي زمن طويل في السلطة.. وإرادة تؤسس قواعد حصينة وعميقة علي أرض 25 يناير.. وتري في المستقبل مع الحاضر سلاحها البري والجوي! وبينهما يقف من لا يفهم حائرا.. نفر منهم يستثمرون اللحظة فيتجهون إلي ابتزاز الفلول الذين شاخوا فوق مقاعدهم، ويمارسون عملية جني الأرباح في تلك البورصة.. أي أنهم يبيعون الغالي ليكسبوا الرخيص! أما الشباب فهو يرفض عمليات البيع جميعها واثق من أن، الاستثمار في المستقبل سيجعل مصر تستعيد قيمتها وقامتها ومكانتها.. كل هذا صراع طبيعي.. لكن أن يدخل الأطفال والنساء في هذا الصراع.. فتلك كارثة.. لأن النظام الساقط لا يعرف معني الطفولة ولا يحترم حرمة النساء ولا يكترث بدماء الأبرياء! وهذا جعل المعادلة تنقلب من صالحه نسبيا إلي ضده تماما.. وبقيت جماعة الإخوان المسلمين في الميدان، كشاهد «شاف كل حاجة» وتدعي دائما أنها «شاهد ماشافش حاجة».. ولعلهم يتعلمون أن: «العيال كبرت».. ومهما عشنا نتابع مسرحية «دماء علي ملابس السهرة» سيأتي اليوم الذي يسقط فيه الخديو بعد الخديو.. كما سقطت الرقابة وأوامر المنع وظهرت رائعة فاروق جويدة «الخديو»!