تدور أمام عيني مشاهد متقطعة.. كلها ستجد «حسني مبارك» في قلبها.. لا أعرف ما السر الذي فرض تلك الصور علي ذاكرتي. مشهد 1: أستاذي «جلال سرحان» – رحمه الله – أمضي إلي جواره، بينما كنا نغادر مبني جريدة الأهرام.. يحدثني عن أنه عاش مختلفا مع «أنور السادات».. لكن مصر ستبكي دما بسبب هذا الذي نصبوه رئيسا.. كان «حسني مبارك» قد أقسم علي احترام الدستور.. أذكر أنني اندهشت ونظرت إليه باسترابة.. قال لي سنلتقي يوما وتعرف لماذا قلت لك ذلك!. وأخذتنا موضوعات أخري حول الصحافة وما تشهده من تدهور – حسب ما كان يري – في أوائل الثمانينيات.. وقبل أن يتركني قال لي: «أعرف أنك متفائل.. لكنني رأيت أن أذكر أمامك ما أعتقده، حتي لا تصاب بصدمة في المستقبل.. وتواعدنا أن نلتقي ليذكر كلانا الآخر.. رحل «جلال سرحان» عن الدنيا مغدورا به.. فقد كان في مطلع الأربعينيات من عمره.. لم يحتمل إبعاده، وتنصيب الأقل كفاءة وموهبة عنه لقيادة واحدة من الصحف. مشهد 2: في قاعة الياسمين بدار الدفاع الجوي.. كنت قد تعودت علي لقاء اللواء «مصطفي الحفناوي» قائد سلاح الطيران بعد النكسة.. يحكي عن ذكرياته خلال فترة خدمته.. يحدثني عن جمال عبد الناصر» باعتباره أستاذه.. ويحدثني عن «حسني مبارك» الذي كان تلميذه.. كنا بصدد اتفاق علي أن أكتب للرجل مذكراته.. وتكررت لقاءاتنا بعد ذلك في منزله، وقمت بتسجيل عدة لقاءات.. حتي فوجئت بالرجل يرفض استكمال المشوار.. وتركته لتبقي في ذاكرتي جملة لا أنساها ضمن ما سجلت.. كنت أكتب في تقارير «حسني مبارك» أنه ممتاز كموظف.. وفي خانة الملاحظات أسجل تلك العبارة: «ليست لديه أي قدرة علي الخلق أو الابتكار»!. وباقي التفاصيل سأنشرها يوما ما. مشهد 3: أتذكر يوم أن قال لي في الجزائر «مقداد سيفي» رئيس وزرائها الأسبق: «يتهمونني هنا بأنني موظف رفيع المستوي».. وأخذ يعدد لي قدراته في التعامل مع الأزمات التي واجهها.. ثم فاجأني قائلا: «لو كنت في مصر لأصبحت رئيس جمهورية يلتف حولي الشعب.. فعندكم رئيس لا يملك القدرة علي التعامل مع أي أزمة.. في تلك اللحظة ظهرت علي وجهي علامات الاستنكار والغضب.. حاول التهدئة من روعي، ثم أضاف: «مصر التي أنجبت عبد الناصر الذي نحترمه جميعا وتحبه أغلبية الأمة العربية.. والتي أنجبت أنور السادات وجميعنا يحترمه، لكن أقلية منا تحبه.. لا يمكن إطلاقا هذا الحسني مبارك ليصبح رئيسا لها».. وكان ذلك كفيلا بأن انفجر في وجهه محاولا الدفاع عن بلدي في سذاجة.. واليوم أدركت معني الكلام. مشهد 4: في العاصمة الأردنية عمان، كنت في جلسة حوار مع صديقي «نزير رشيد» رئيس جهاز مخابراتها ما بين 1970 و1982.. ووزير الداخلية في الفترة ما بين 1997 و2000.. كان الرجل يحدثني عن أيامه التي عاشها في مصر لاجئا سياسيا، وقت أن قاد انقلابا عسكريا علي الملك حسين.. وحدثني عن «محمد نسيم» – صديقه – وعرفناه بظهور مسلسل «رأفت الهجان» مجسداً شخصيته نبيل الحلفاوي باسم «نديم قلب الأسد».. ثم حدثني عن الرئيس «أنور السادات» مؤكدا أنه الرجل الذي يستحق أن يراجع العرب جميعا أنفسهم تجاه شخصه وتاريخه وإنجازاته.. وإذا به يفاجئني قائلا: «كيف سمحت لمصر أن يقودها رجل اسمه حسني مبارك»!. وفي هذا اليوم امتدت السهرة لأنه كان يحاول أن يقلل من غضبي ورفضي لكلامه! عشرات المواقف تعرضت لها بسبب انفعالي ورفضي لكل الذين كانوا يتحدثون عن «حسني مبارك» بتلك الخفة والسخرية.. واسمحوا لي بالقول.. بل بالاحتقار!. وفي كل مرة كنت أراجع نفسي فانتصر لها.. كنت أعتقد أنه مصري وقائد عسكري عظيم.. لا أنكر أنني اعتقدت أنه يمكن أن نعلق عليه الآمال.. حتي كانت نهاية التسعينيات.. عندئذ كنت قد فهمت الحكاية.. طلبت الرحيل من مصر.. ذهبت إلي الجزائر.. وبعد 3 سنوات بعيداً عن الوطن.. ضبطتني متلبسا بفهم الحالة.. فكنت دائما ما أداعب صديقي «إحسان حماد» مدير مكتب مصر للطيران بالجزائر في هذا الوقت، فأقول له: «حسني مبارك لا يقبل إلا بالجهلة والأقزام والسفهاء ليحيطوا به.. ويقدمهم في الواجهة لقيادة مصر»!. هذا الانقلاب في فهمي لشخصية المخلوع استلزم أكثر من 20 عاما.. وقد يكون لاحتاج لما يقرب من الثلاثين عند آخرين.. المهم أننا جميعا عشنا تلك الفترة الطويلة جدا.. نراوح بين تصديق الحقيقة وتكذيبها.. نحاول الرهان عليه لنضاعف من خسائرنا في الحياة.. خسائرنا ليست مهمة.. الكارثة كانت في خسارة وطن عظيم اسمه مصر.. وقبل رحيله بأكثر من عامين، كنت قد عقدت العزم علي رفض هذا الرئيس ونظامه ورموزه.. وعبرت عن ذلك بكل ما أملك.. لكنني لم أتخيل أنه سيأتي اليوم الذي أراه في القفص.. خانعاً.. ذليلاً.. خاضعاً.. يمارس كل ألوان التمثيل علي المواطن قليل الحيلة وعديم «...».. وكم كانت الصدمة عنيفة أنه عاش ليسمع بأذنيه، ويري بعينيه.. كيف احتقره شعبه، بقدر ما حاول إذلاله.. لم يتعلم أنه أصبح رئيسا لحظة الغدر وقتل رئيس مصر الراحل.. فهذا رجل يستحق ما هو فيه.. ولو كانت لديه مشاعر أو أحاسيس أو وعي بما يحدث حوله.. لاختار الموت داخليا.. والمثير أن الذين غدروا به لم يتعلموا شيئا من لحظات نهايته.. وسيأتي يوم نراهم في موقفه!