بحلول الخامس والعشرين من ديسمبر كل عام يزور البطريرك غريغوريوس الثالث لحام السوري بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والإسكندرية والقدس للروم الملكيين الكاثوليك الكنيسة الكاثوليكية بمصر، ليبعث برسالته للكاثوليك المصريين ويطلع علي آخر الأوضاع للمسيحيين بمصر بعيد الميلاد المجيد. هذا العام هو عام مختلف نتيجة للثورات العربية التي تجتاح العالم العربي الآن والذي يؤكد فيها البطريرك أن الثورات العربية هي اصطناعية لأن الثورة الحقيقية تهدف للبناء والتطوير وتكون ذات رؤية واضحة وليس مجرد إسقاط الأنظمة، كان لروزاليوسف لقاء خاص مع قداسته للوقوف علي تطورات الوضع السوري وموقف الطائفة الكاثوليكية من الأحداث، كذلك مقترحاته لاحتواء الأوضاع العربية الحالية ورؤيته للثورة المصرية، فإلي نص الحوار.. ■ كيف تري الوضع الآن في سوريا؟ - بداية.. كل عام وأنتم بخير ونتمني هذه الأنشودة الصعبة التي هي مختصر الأماني لكل إنسان مسيحي مسلم دورزي يحب أن تكون علاقته بالله جيدة ويسود السلام رغم الأحوال الصعبة والمتجددة سنويا، فالإنسان طالما هو مع الله يكون متفائلا..فأنا أتأمل أن خبرة العالم العربي بعد أن طالت الثورات نصفه تقريبا أن يأخذ الأمثولة من ذلك ويفهم شعوبه. ■ ما المعطيات حسب المفهوم الدنيوي التي تدعوك للتفاؤل؟ - لا يوجد مفهوم دنيوي من دون الروحي، فتفاؤلي يأتي من قناعاتي الروحية، فحسب المقولة «إن الله يكتب دوغري..لكن بخطوط معوجة».. ربما هذا الربيع حسب تسميته والأحوال الصعبة تكون نهضة روحية ونهضة لضمير العالم الذي هو ضمير ربما قد أصبح مملوءا بالخطايا، فالوضع الاقتصادي العالمي مهم جدا فحسب قول البابا ورئيس أساقفة كانتربري الأمريكي أن الوضع الاقتصادي اليوم هو نتاج جشع رؤساء الأموال والبنوك الذين جاروا علي الفقراء والشعوب، فالوضع الاقتصادي اليوم أصبح أصعب من السياسي بالبلاد العربية وغيرها، الأمر الذي يدعونا لمحاولة تغيير الأحوال وليس الاستسلام للتشاؤم. ■ وماذا عن أوضاع المسيحيين بسوريا؟ - لا أحب أن أتكلم عن المسيحيين بل المواطنين، فالخير والشر يطال الجميع فيقول الكتاب المقدس «إن الله يشرق شمسه علي الأشرار والصديقين» فنحن كلنا مواطنون نعيش بنفس الدوامة، فلا يختلف وضع المسيحيين عن السنة عن العلويين فالوضع واحد لدي جميع المواطنين يواجهون نفس الصعوبات، بل إن صعوبات السنة والعلويين أكثر من صعوبات المسيحيين، فالصراع هو صراع إسلامي-إسلامي وليس إسلامياً – مسيحياً، فالوضع في سوريا صعب جدا يحمل شقا سياسيا وأمنيا وطائفيا، وأكثر تعقيدا نتيجة عناصر داخلية هي البعث والأحزاب والغني والفقير ومشاكل أخري، فإلي جانب التطور الرائع الذي حدث بسوريا لكن الصراع الشيعي العلوي معروف أن المنطقة كلها عربيا وتركيا وأفغانستان والعالم الإسلامي ككل يواجه صعوبات كبيرة جدا، لذلك هناك غموض يحيط بالوضع السوري كذلك المشاكل الحالية موجودة بمحافظات معدودة من واقع 16 محافظة وأماكن محددة منها، بالتالي نسبيا المشاكل محدودة. لكن الشعب السوري الآن أصبح منقسما علي ذاته في موقفه من الثورة السورية.. هذا أمر طبيعي جدا، لكن أكثر المناطق السورية لا تطالها الثورة كما ذكرت بالتالي فالمعظم بعيد عن الوضع الحالي. ■ ما موقفك من الرئيس السوري بشار الأسد؟ - هو رجل طيب ومحترم ويمكن أن يعطي الكثير..كل دولنا العربية متشابهة وتحتاج التغيير، لكن السؤال هل طريقة التغيير هي بسفك الدماء والقتل وإخراج فلان من السلطة وإسقاط آخر؟! فأنا لا أعتقد أن سوريا بحاجة قصوي إلي ثورة فهناك العديد من التحسينات التي تمت بسوريا فلدينا العديد من الجامعات العصرية وهناك تقدم كبير في الصناعة والتعليم والتأمين الصحي، أيضا نسبة الأمية انخفضت جدا وهناك عشر جامعات أجنبية والبنوك الأجنبية، فسوريا من أحسن الدول العربية كوضع اقتصادي رغم غياب البترول حيث تحسن دخل الفرد، فاليوم هناك دراسة رسمية نحو تغيير الدستور من أبنائنا المسلمين والمسيحيين المستنيرين والمادة الثامنة، فيجب أن تهدأ النفوس أولا حتي تكون هناك أحزاب مستنيرة وليس أحزاباً منقسمة مما يزيد الشروخ بالمجتمع ويضيع الاستقرار، ولقد دعيت أكثر من مرة وهو مبدئي كمسيحي وكمواطن مستنير إلي الحوار وإلي كلمة سواء، فالوضع بسوريا لا يحتاج إلي ثورة! فكل العالم العربي يتسم بأنظمة ديكتاتورية وأحزاب مسيطرة ومشكلاته متشابهة لأبعد حد، لكن في رأيي ليس بالثورات سنصنع مستقبل العالم العربي إنما الآن وهو ما أتمناه من جامعة الدول العربية أن تكون ملتئمة علي طول الخط حتي تعالج العالم العربي وليس بالاستنجاد بالغرب، فلابد أن نكون أقوياء وكتلة واحدة، فعلي العرب جميعا الاجتماع والاستماع لأصوات الشعوب بالميادين والساحات ومطالبه ويضع أوراقه أمامه ليصوغ منها ويشرع حقوق الإنسان العربي الحديث ومعالجته كمجتمع مسلم لأن الأغلبية هي المسلمون، فهل هذا هو وقت الانقسام أم الاجتماع أمام هذه الأوضاع الصعبة؟! فالعالم العربي اليوم في حالة من العداء والخوف ونسي القضية الفلسطينية، فأين هي اليوم من مشكلاتنا؟! ■ هل هذا مقصود في رأيك؟ - هذا هو الواقع، ففي رأيي سياسيا ودينيا اجتمعنا في العام الماضي بروما كل الكنائس المسيحية الكاثوليكية وأجمع الجميع علي أن القضية الأكثر حرجا وإلحاحا هي حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والتي بحلها سنحل 50% من مشاكلنا الحوارية والإسلامية والعربية، لأن هذا الصراع من شأنه لخبطة الأوراق العربية ويساعد علي ضبابية الرؤية وكأن المقصود هو «فرق تسد». ■ هل آراؤك ومقترحاتك تشاورت فيها مع الرئيس بشار الأسد؟ - أنا لا أتحدث في الخفاء، فكل آرائي ومقترحاتي معلنة ومطروحة فكل مقابلاتي العربية والأوروبية وكل كتاباتي ورسائلي إلي العالم الأوروبي منشورة ومعلنة علي موقعي الخاص، فأنا أدعو إلي كلمة سواء والتواصل معا ويمكنكم بناء عالم عربي جديد في الألفية الثالثة والقرن الخامس عشر الهجري. ■ ما تفسيرك لعدم الاستجابة لهذه الرسائل والمقترحات واستمرار قتل المتظاهرين بسوريا؟ - الدولة مسئولة عن كل المواطنين، مسئولة عن أمن المتظاهرين وأيضا عن أمن المواطنين والجيش إذا هوجم، وحسب معلوماتي المرتكزة علي التليفزيون والمحيطين بي أنه نادرا ماتكون المظاهرة سلمية !...فهل هذه هي الديمقراطية؟..ولا أظن أن المسئولين من الغباء حتي يقتلوا المتظاهرين السلميين، وحسب معلوماتي أن هناك أوامر بعدم استخدام العنف والقوة إلا عند الضرورة القصوي في حالة الدفاع عن النفس أو المتظاهرين، لكن المشكلة أنه لا أحد يصدق ذلك !! لايصدقون أن هناك عنفاً من المتظاهرين أكثر من عنف الدولة الذين ليس من مصلحتهم قتل المتظاهرين. ■ هل هناك مطالبات للأسد بترك السلطة الآن؟ - هذا مطلب خارجي وليس نحن، عن نفسي كمواطن ورجل ديني أدعو للمحبة والتواصل مع الثوار، فمطلب «ارحل» لا أراه طريقة حضارية فلا يجب أن يكون الهدف إسقاط النظام إنما لتغيير النظام، لكن كل البلاد العربية تطلب إسقاط الأنظمة والذي أدي إلي العنف، فأنا أومن بفكرة الإصلاح وهو موجود بالفعل إنما بنسب متفاوتة عربيا، فهل الكويت مثلا بها إصلاح كافٍ؟! كذلك الجزيرة العربية؟! لذلك أنا أدعو للحوار وليس إزالة الأنظمة، فكيف هو الحال بالبلاد التي سقطت أنظمتها اليوم؟! تعيش في دوامة. ■ هل تري ما يحدث بمصر اليوم هو فوضي؟ - سوريا نفس الوضع أيضا، فالكل يعيش في مشاكل، لكن هناك الكثير من المناطق السورية تعيش بهدوء، مما يجعل الثورة شيئا اصطناعيا فالثورة الحقيقية هي التي تقوم بها الدول العربية وتصوغها بطرق سلمية فلسفية علمية وعقلانية، عن طريق حكماء المجتمع العربي ليصوغ مشروعا مشتركا حضاريا لتغيير المستقبل العربي، فنحن من نصنع مستقبلنا وليس الخارج، فالتدخل الخارجي ضد العرب فالأهم من ذلك ليس رفض الخارج وإنما المشروع العربي الحضاري وهذا ردي علي كل الثورات لإيقاف نزيف الدم وتدمير المحبة. ■ هل تؤمن بنظرية المؤامرة؟ - الحياة مليئة بالمؤامرات، فأوروبا وأمريكا و روسيا مصالحها مختلفة وحسب المصالح تتحدد الأمور فكلمة «المؤامرة» هي كلمة رخيصة. ■ كيف يتم تطبيق هذا المشروع العربي في ظل هذه الأوضاع العربية المرتبكة والخلافات؟ - هذا ما أقوله، فليست المشكلة في الثورات أو رحيل أشخاص، ففي مثل هذه الأوقات الصعبة كنت أستعمل ثلاث كلمات «ثورة، رؤية، تطور» فالثورة بدون رؤية وتطور لن تغير شيئاً البتة! فالإصلاح ليس معناه هدم كل شيء فالكتاب المقدس يقول « إذا هدمت ما بنيته أكون متعديا» فهناك الكثير من البناء بمصر، أنا لا أحامي عن مبارك لكن ليس من الضروري أن نخرب مصر ونخرب العلاقات بين المسيحيين والمسلمين لنقول أنها ثورة جديدة. لذلك فدور العالم العربي لملمة هذه المشاكل وتكون لديه رؤية واضحة والوقوف متكاتفين أمام المؤامرات والتدخل الخارجي وكل هذه الخرافات لنتعايش جميعا في سلام، فنحن نملك ثروات بشرية ودينية وطبيعية، فلقد دعوت لعقد قمة عربية لمناقشة جدية لما يجري الآن. ■ وما صدي هذه الدعوة؟ بالفعل عقدت قمة إسلامية - مسيحية عربية مرتين بلبنان جمعت أصواتا متنوعة تهدف لإعطاء الأمل للإنسان، وتوصلت إلي أهمية نشر السلام والتعايش بين الشعوب والانفتاح واحترام حقوق الإنسان أيضا تطوير حرية المعتقد. ■ هذه التوصيات شبه ثابتة في ختام كل مؤتمر لكن في ظل الأحداث الجارية ألا يجب أن تكون هناك توصيات جديدة وطرح جديد؟! - وصايا الله موجودة منذ زمن!..فهذه المؤتمرات لاتهدف لتغيير الكلمات إنما لتغيير الذهنيات، فالإصرار علي اجتماعات المسلمين والمسيحيين هو الإصرار علي تغيير المجتمعات العربية الذي لن يحدث بين ليلة وضحاها كذلك تعبيرا عن تأثيرنا بمجتمعاتنا وتأكيداً علي احترام حياة الآخرين. ■ هل هذا متحقق علي أرض الواقع؟ - هذا مطلب، فأنا أتطلع إلي النجوم رغم أنني لن أطالها..لذا نحن نطلق هذه الشعارات التي تأخذ طريقها للتحقيق ربما ببطء لكنها تتجه نحو التحقق، فدوري كرجل دين هو تهدئة الأوضاع وإيضاح الطريق لكن دون إلزام لأحد. ■ هل دعوت الطائفة الكاثوليكية السورية لعدم الانضمام للثورة السورية؟ - لا لم يحدث فنحن مواطنون نعمل من أجل الوطن، أما الخيار السياسي فهو شأنهم وليس شأناً كنسياً، فأنا لست وليا علي أحد. ■ هناك من يري أن التغيير الديمقراطي بسوريا يمر عبر رئيس مسيحي، ما تعليقك؟ - هذا صعب الآن، فنحن كمجتمع سوري أكثره إسلامي، قد يأتي ذلك لكن ليس بهذه الأيام.. أنا لا أطلب ذلك، ربما الرئيس المسلم أفضل من المسيحي، وعموما المسيحيون يحتلون الكثير من المواقع المهمة بسوريا ولا يواجهون تجاهلا بسبب الديانة، فنحن مشاركون بحياة المجتمع السوري، فنحن لدينا مدارسنا التي أثبتت حضورها ومؤسساتنا أيضا، كذلك نهتم بحقوق المرأة كافة المعيلة والمعنفة والمغتصبة وغيرها من الحقوق، فلن يكون تأثيرنا فقط من خلال رئيس مسيحي. ■ هل تري أن التيار الإسلامي المتمثل في الإخوان المسلمين والسلفيين عامل مضاد للتحول الديمقراطي بسوريا وبالعالم العربي؟ - دعنا نغير هذه الكلمات «سلفي وإخواني» فكلنا مواطنون، فأنا كإنسان عليّ أن أعرف كيف أستطيع أن أتعامل مع التيارات المختلفة حتي أخفف من صعوباتها وأجعلها تعمل في خدمة الوطن، فالتعصب الديني موجود منذ زمن، لكن من الفطنة أن أتواصل مع الجميع لنصل لمشروع وطني موحد يتوافق عليه الجميع. ■ هل يتدخل بابا روما في الشئون السياسية العربية؟ - الفاتيكان قوة روحية معنوية جبارة جدا ويسعي دوما لنشر السلام بين شعوب العالم، الآن قد تفسر مواقفه بأنها تدخل سياسي أو عدائية وهو غير صحيح، فالفاتيكان هو في الأساس دولة روحية قبل أن تكون مدنية فهي رمزية فالفاتيكان جغرافيا هو دولة صغيرة جدا، لذا فليس لها دور سياسي بالمعني الحرفي إنما دوره إجتماعي روحي في المقام الأول، فرسالة الميلاد للعام 2012 هي تربية الشباب علي الثقة والسلام كما انتقد الاستهلاكية والمادية التي أثرت سلبيا علي الإنسانية، فالفاتيكان أهدافه اجتماعية فقط ولا يلزمنا بشيء. ■ ما ملامح علاقة بابا الفاتيكان بالكنيسة المصرية؟ - هي علاقة جيدة والبابا شنودة هو شخصية تحظي باحترام عالمي وتقدير وله مواقف عديدة تتسم بالحكمة واحتواء العديد من المشاكل، فالكنيسة القبطية من أهم الكنائس الشرقية. ■ ما موقف الطائفة الكاثوليكية من الحج إلي القدس، هل منعت رعاياك من الحج إلي هناك؟ - نأمل السلام ونبذ البغض والكراهية وهو الأهم، أما مسألة الحج فهي شأن الكاثوليكيين فلم أناقش مطلقا هذه المسألة معهم. ■ إذن انحيازك لمن؟ - ليست مسألة انحياز لأن العقبة ليست مني أنا إنما هي عقبات سياسية. ■ في رأيك لماذا يزداد التباعد بين سوريا ولبنان خاصة بعد اغتيال رفيق الحريري؟ - لا تزداد فالوضع كما هو بينهما يتسم بالكر والفر، فأوضاع المنطقة كلها تؤثر سلبا علي العلاقات العربية، أيضا طبيعي أن لبنان متأثر بالوضع السوري الحالي ولو تفاقمت الأوضاع أكثر فإن لبنان والأردن وفلسطين ستتأثر فالقضية محورية، لذا لابد من سرعة الاحتواء. ■ هل الوضع السوري حاليا يعتبر تربة خصبة للفتنة الطائفية بين المسلمين والمسيحيين؟ - السياسة تكفي لخلق هذه الفتن، لكن بسوريا الخلافات الفئوية الدينية إسلامية أكثر بالعالم العربي. ■ ما تطلعاتك للعام الجديد؟ - أتمني أن يعم الخير والسلام وأن يتوحد العرب جميعا علي كلمة سواء، فخلاص العرب بأيديهم من خلال مشروع عربي حضاري.