كنت في سجن القلعة في أوائل الثمانينيات قبل أن يتحول إلي متحف حربي في التسعينيات.. وكان في أسفل كل باب زنزانة مجموعة من الثقوب الصغيرة كنت ألقي منها ببعض الأكل الذي يأتيني إلي القطط.. وأتمتع بتجمع القطط عند الباب لالتهام ما ألقيه لها من طعام. فقد كان نظام المعتقل يمنع أي معتقل بالخروج من الغرفة إلا والعصابة علي عينيه ويمنعه من الحديث مع الآخرين أو الاختلاط بهم.. فلم يكن أمام المعتقل سوي الحديث مع الشاويش أو التمتع برؤية القطط. وقد عرفت القطط غرفتي وألفتني وألفتها دون أن تراني.. حتي أنني كنت أجدها قبل موعد الطعام تنتظر عند باب غرفتي فأسعد برؤيتها لأنها الكائن الوحيد في هذا السجن الذي تأمن أذاه وشره. أما البق في هذا المعتقل فكان بالآلاف.. وكلما قتلت منه ألفاً في اليوم السابق وجدت ألفاً غيره في اليوم التالي فنقوم بقتلها أيضاً.. وهكذا يتكرر الأمر كل يوم.. فلا يباد البق ولا ينتهي المعتقل من قتله. أما ما كان يؤرق المعتقلين ويحرمهم من النوم بالليل هو أصوات التعذيب الفظيعة التي تبدأ من بعد المغرب حتي الفجر.. وكانت غرفتي في المعتقل رقم (3) وهي تبعد بغرفتين عن غرفة التعذيب وهي رقم (1). وفي أحد الأيام في معتقل القلعة سمعت بعض الشاويشة يتحدثون بجوار غرفتي ويقول أحدهم للآخرين: تصور هناك ستة أشقاء في غرفة كذا. فوقع في نفسي أنهم أشقائي.. ثم تأكدت من ذلك بعدها. فقد قبض عليهم جميعاً وعلي آخرين بعد سرقة أحراز القضية الكبري التي كان يحاكم فيها 302 متهم كقيادات وقرابة ألف كأعضاء وانتماء.. ثم تبين أن الشاويش المسئول عن مخزن الأحراز هو الذي سرقها.. فقد كان يهرب كل عدة أيام أجزاء من هذه الأحراز.. ولم يكتشف الأمن ذلك إلا بعد قرابة عام تقريباً.. ولم يكن لأشقائي أو غيرهم أي دخل في ذلك الأمر.. ولكن هكذا كان يمضي القبض العشوائي وتوسيع دوائر الاشتباه. وقد كان بين أشقائي شقيقي الذي يكبرني مباشرة وهو الأستاذ عزت إبراهيم.. «وهو الآن مدير عام بالتعليم علي المعاش».. وكان من عاداته أنه إذا اعتقل يبدأ الصيام تقرباً إلي الله حتي يخرج من المعتقل. وقد فوجئت بعد ذلك بأن قائد حرس المحكمة وهو برتبة لواء موجود بالغرفة التي تجاورني مباشرة.. ثم سمعته وهو يصيح في حلاق السجن الذي يريد أن يحلق له ذقنه بأدوات متسخة قائلا ًله: «أنا لواء شرطة أعامل هكذا.. وما علاقتي أنا بسرقة الأحراز.. وكيف أعيش في هذه الغرفة القذرة». ثم جاءوا بالشاويش الذي سرق الأحراز وعلقوه علي الباب وظلوا يضربونه بالكرابيج حتي اعترف علي كل شيء وعلي مسئوليته وحده عن سرقتها.. وأنه ليس وراءه تنظيم ولا أي شيء.. وأن دافعه لذلك هو حاجته للمال فقط.. وأنه لا علاقة له بأي جماعات إسلامية ولا يحزنون. وبعد ذلك خرج اللواء قائد حرس المحكمة ورأيناه بعد ذلك في المحكمة يشخط وينطر كما كان يفعل من قبل.. ونحن نقول لبعضنا في همس «لقد كنا زملاء في القلعة منذ أيام.. فهل نسيت». والغريب أن هذا اللواء بالذات كان يدقق جداً في وضع الكلابشات لنا وعدم فكها.. فقد كنا أساتذة في فك أعقد كلابش.. أحياناً بغطاء القلم الفرنساوي رينولد أو غيرها.. فأحضروا كلابشات أمريكية جديدة فنجح بعض الإخوة في اكتشاف طريقة لفكها. ثم خرج أشقائي جميعاً.. وهم لا يعرفون لماذا اعتقلوا أو لماذا خرجوا. وهكذا قضينا أياماً صعبة في سجن القلعة.. لم يخفف عني فيها سوي كتاب «مدارج السالكين».. فقد قابلني ضابط بلدياتي هناك وقال لي: هل تريد أي خدمة؟ فقلت له: أريد أي كتاب. فقال: هنا كتب كثيرة تصادر من بيوت المعتقلين.. فأعطاني هذا الكتاب العظيم «مدارج السالكين» وهو مختصر لكتاب «إحياء علوم الدين» لحجة الإسلام الغزالي الذي قال عنه السلف الصالح: «ليس من الأحياء من لم يقرأ الإحياء».. وهذا الكتاب هو الذي جعلني أعشق الإمام الغزالي وأتابع كل كتبه وأدرك مكانته العظيمة التي لا يتسع هذا المقال لبسطها. وقد كان معنا في رحلة القلعة هذه عدد من الإخوة المشاهير اتهموا معنا في البداية بأنهم السبب في سرقة أحراز القضية التي كنا نحاكم فيها حتي لا ندان حسب ظنهم. وكان منهم الشيوخ كرم زهدي والمرحوم الرائد عصام القمري ود. أيمن الظواهري وغيرهم. ثم عدنا جميعاً سالمين إلي ليمان طرة بعد أن أخذنا علقة موت في استقبال طرة «علي الماشي».. وكل علقة وأنتم طيبون.. فقد مضت الأيام بحلوها ومرها والحمد لله أنني لم أحمل في قلبي حقداً لأحد حتي لو أساء إلي.. فالدنيا كلها لا تستحق ذرة حقد علي أي أحد.