فى لوحات فنية راقصة تتبع المخرج والمصمم وليد عونى غبار النور؛ من بقايا حضارة مندثرة لكنها خالدة، مازالت تمنحنا دورسا بتماسها مع الواقع الحالى من غبار رحيقها الممتد، قدم عونى مدير فريق الرقص المسرحى الحديث التابع لدار الأوبرا آخر إنتاجه «أخناتون» رمز المحبة والتسامح والسلام والدعوة إلى الإله الواحد «آتون» نبذ إخناتون تعدد الآلهة ودعا إلى دين جديد بشر بالتوحيد؛ واجهت هذه الدعوة قتال وصراع عنيف من قبل كهنة آمون وفى كتاب نجيب محفوظ «أمام العرش.. حوار بين الحكام» الذى حاكم فيه حكام مصر من عهد مينا إلى أنور السادات جاء فيه تلخيص لوضع اخناتون التاريخى وقال على لسانه اثناء محاسبته فى العالم الآخر. «هبط على قلبى وحى السماء بنور الإله الواحد والدعوة إلى عبادته كرست حياتى لذلك ثم كرست عرشى لخدمة نفس الهدف وسرعان ما قام صراع وحشى بين دعوتى النورانية وبين ظلمات الجهل والتقاليد وأطماع الكهنة والحكام الظامئين إلى الجاه واستعباد الفلاحين انعقدت سحب المكائد والدسائس وزحفت جيوش الظلام حتى حاصرتنى من جميع الجهات». «أخناتون» الفكرة لم يشغل عونى تقديم إخناتون كشخصية تاريخية بل قدمه كفكرة لها أثرها الطويل الممتد من التاريخ الفرعونى ومراحل تطوره حتى اليوم بالدعوة النورانية التى أطلقها وتراتيله وتسابيحه التى كتبها للشمس وفى رأى المخرج ما لبثت هذه التراتيل حتى أصبحت غبار من النور قرر أن يتتبعه حتى وصل بنا إلى عصرنا الحالى، فما حدث لإخناتون من حرب وتدمير لمدينته «تل العمارنة» التى اتخذ منها مقرا لدعوته وحكمه هو نفسه ما يحدث اليوم من تهجير وتدمير للعديد من المدن والدول العربية من أجل صراعات وحروب تأسست أيضا على دعوات وأفكار دينية..! هجرة الأنبياء «لا كرامة لنبى فى وطنه» هكذا تقول الحكمة الإنجيلية فلكل أمة نبيها ولكل عصر أناس يحملون روح هذه النبوة وإحياء لرسالاتهم الناطقة والداعية فى الأساس إلى السلام والحب والتسامح بينما عادة ما يهدم المعبد على محاولات هؤلاء البائسة وترفض دعواهم على مر العصور اضطهد العلماء والمفكرين والأولياء ويرجع ملخص الإضطهاد لدعوتهم إلى أفكار مجردة من شهوات السلطة والحكم واتباعهم للحق وتكون مواجهة هذه الدعوات إعلان الحرب لإنتزاع سلطة أو الإنفراد بحكم هكذا تسير الأمور اليوم فى مجتمعاتنا العربية التى تقام فيها النزاعات والحروب للإستيلاء على الأرض والتفرد بالسلطة بناء على خلفيات عقائدية يتمسك بها أصحابها لإثبات أحقيتهم فى إمتلاك الأرض وإخراج أهلها منها. الروح الهائمة استدعى عونى روح «إخناتون» الهائمة التائهه على مر العصور فى شخص الممثل أحمد السيد الذى تتبع مسيرة العرض وكأنه روح هائمة تسير من الماضى للحاضر تائهه بين ما حدث قديما وما يحدث اليوم؛ تحول إخناتون وتبدل عبر الأزمنة ولم تتبدل النتائج لكن تبدلت اشكال الحروب واسبابها فما بين الماضى والحاضر عاش إخناتون بيننا؛ يؤخذ عليه فقط حالة الغموض التى بدت على الفكرة الرئيسية للعمل كانت تحتاج لمزيد من الوضوح خاصة فيما يتعلق بالربط بين هدم فكرة اخناتون العقائدية بدعوته لدين جديد، وما يجنيه العالم اليوم من حروب أساسها دينية، ففى بداية العرض يقدم عونى لوحة راقصة معاصرة لمجموعة من المسافرين أو المهاجرين وفوضى كبيرة عارمة مقصودة فى إشارة لما يشهده العالم من فوضى حقيقية سواء إعلامية أو إنسانية؛ أكثر من فتاة فى مقدمة المسرح يحملن ميكروفونات وكأنهن راقصات ساخرات من وضع الإعلام اليوم الذى أصبح ينقل كل هذه الكوارث الإنسانية وكأنه سعيد بها أو بمعنى آخر هو أحد المشاركين والمتطورتين فى هذه النكبات لكنه لا يآبه بذلك؛ تتبدل اللوحة المعاصرة الذكية فى التشكيل والمضمون والتى صاحبتها موسيقى ممتعة ساخرة مما نتعرض له اليوم، لندخل فى لوحات الزمن الفرعونى زمن «إخناتون» واستعراض مراحل ولادته علاقته بوالدته الملكة «تي» ووالده امنحتب الثالث ثم علاقته بالملكة نفرتيتى وقصة الحب بينهما ودعوته للتوحيد والربط بينه وبين الشمس ونورها وكأنه كان يستمد قوة أفكاره النوارنية من اشعتها ثم مراحل بناء مدينته «تل العمارنة» التى نقل فيها عرشه ودعوته وهدم هذه المدينة لتتوقف هنا حركة الرقص والزمن؛ الحركة الدائرية التى إعتمدها عونى فى لوحاته الراقصة ويتساقط النور متدرجا عليها فالدائرة دارت علينا اليوم وظل الراقصون بملابس الفراعنة وارتدوا عليها ملابس معاصرة لكن أجزاء من ملابسهم ظلت فرعونية فإمتزج هنا الماضى بالحاضر لنرى بلدان تهدم واخناتون يرتدى زى اليوم يهجر أرضه وتنبذ دعوته ويشارك المطرودين آلامهم وأحزان نزوحهم من بلدانهم ثم يغلق المخرج لوحته الفنية الراقصة بمشهد هجرة السوريون من أرضهم فى تشكيل بديع لمسافرين اعتلوا المستوى الثانى من المسرح ودخان كثيف امتلئت به الخشبة فى إشارة لمشهد غرق الطفل «آيلان الكردى» هو طفل سوري صغير لم يتجاوز الثالثة من العمر، مات غرقاً بعد أن وجده شرطى تركى، حيث كان برفقة والديه وأخيه يحاولون الوصول إلى اليونان بواسطة قارب صغير انطلق من سواحل تركيا محملاً باللاجئين السوريين الهاربين من جحيم الحرب الأهلية، كان لهذا المشهد أثر بليغ فى ختام العرض الراقص مزج فيه عونى بين آلام الحاضر والماضى فكما خربت تل العمارنة ودمرت لم يعد لها سوى آثار من الذكرى التاريخية هكذا يدمر مستقبلنا يتوقف ويغرق على شواطىء أحلامنا الضائعة. التشكيل البصرى كان لعناصر الصورة البصرية دور كبير فى إثراء العمل الفنى وفى تعميق الفكرة التى اراد عونى أن يشرك جمهوره بها بدءا من الديكور والإضاءة التى كان لها أثر بديع فى تشكيل لحظات فنية شديدة الجمال والرقى والروعة وفى نقل الحالة الفرعونية خاصة فى مشاهد الرقصات الجماعية واللعب على النور الذى يلاحق عونى غباره فى رواية إخناتون استطاع المهندس ياسر شعلان وضعنا بإضاءته فى هذه الحالة من الملاحقة النورانية بتشكيل مشاهد إضاءة دقيقة محسوبة مع مراعاة تفاصيلها الكثيرة على أجساد الراقصين للخروج بلوحة نور إخناتون إلى نور الحضارة المعاصرة مهارة فنية تحسب لصانعها الذى ساهم فى تغليف العرض بمعانى بصرية ناطقة مثل الأجساد التى سقطت عليها هذه الأنوار الساطعة؛ اضافت الملابس إلى هذه اللوحة التشكيلية جمالا آخر ثم مهارة استخدام ودمج تقنية ال«video mapping» لأجواء العرض الراقص الثرى والمعقد فنيا بلوحات راقصة متنوعة أتقن الراقصون تأديتها وكأنهم فى وضع خشوع لإلقاء تراتيل وصلاة دائمة. شارك فى بطولته كل من على يسرى فى دور إخناتون، رشا الوكيل الملكة تي، عمرو البطريق امنحتب الثالث، محمد السيد آمون، محمد مصطفى كبير الكهنة، منت محمود نفرتيتى، أحمد السيد فى دور روح إخناتون الهائمة.