في ذكري رحيله..حديث عن الثورة والعدل لم تعرف التجربة الناصرية عدلاً مطلقاً ولكنها عرفت إقرارًا بحق العدل وخطوات لتفعيله اجتماعياً
كتب - د. رفعت لقوشة قال الرسول - صلوات الله عليه - «قد يدوم ملك علي كفر ولا يدوم علي ظلم» ومن فوق سبع سماوات كان الله عز وجل ينفي عن ذاته صفة الظلم ويصف نفسه ب«العادل» ،فالعدل هو حق أصيل للبشر في كل مكان وفي كل زمان ومن أجله قامت ثورات ومن أجله سوف تقوم ثورات. لم يكن حق العدل بعيدًا عن عبدالناصر قبل ثورة 23 يوليو وبعدها، ففي نوفمبر 1949 وقبل الثورة كان المنشور الأول للضباط الأحرار الذي صاغه عبدالناصر وجاءت كلمات فيه تقول السلطات تستمر في عيشها وسط مظاهر الترف والسعادة متناسية الشعب الذي يئن تحت وطأة الفقر والجوع والمرض، وبعد الثورة كان حق العدل حاضرًا في السياسات والقوانين والإجراءات، حق العدل ليس شعارًا مرسلاً ولكنه ببساطة إعادة لبناء المراكز القانونية في إطار صيغة أكثر عدلاً، وهذا ما يطلبه الناس من الثورات.. وهذا ما ينبغي أن تحققه الثورات للناس، ولقد كانت القوانين التي أصدرتها الثورة وبعد أشهر قليلة من قيامها بمثابة مقدمات لمراكز قانونية جديدة تستجيب لمطالب العدل إقرارًا بحقه. كان قانون الإصلاح الزراعي - والصادر في سبتمبر 1952 - بمثابة إعلان بحق العدل، فالمراكز القانونية في الريف وقبل الثورة كانت تفصح عن واقع يملك فيه عدد من الملاك أراضي تقترب في مساحتها من 200 فدان وأكثر.. وتمثل في مجموعها حوالي 30% من مساحة الأراضي الزراعية، وكان عدد أولئك الملاك لا يزيد علي 1% من إجمالي عدد الملاك الزراعيين، وفي المقابل كانت نسبة الأسر المعدمة في الريف تعرف اتجاهًا صعوديًا.. فلقد بلغت النسبة حوالي 24% من إجمالي الأسر الريفية في عام 1924، وازدادت إلي حوالي 38% في عام 1939 ثم واصلت ارتفاعها إلي حوالي 44% في عام 1950 . لا أحد يدعي أن قانون الإصلاح الزراعي قد حقق عدلاً مطلقًا عندما قام بتوزيع حوالي 5 و12% من الأراضي الزراعية علي حوالي 242 ألف أسرة، ولكن بمقدور المرء أن يجزم بأن القانون قد ساعد علي إعادة بناء المراكز القانونية في الريف بصورة أكثر عدلاً، وفي إطار السياق انخفضت نسبة الأسر المعدمة في الريف إلي حوالي 24% في عام 1965 ولكنها عادت لترتفع وبعد رحيل عبدالناصر إلي حوالي 33% في عام 1975 . نعم كانت هناك أسر معدمة في حياة عبدالناصر وكانت هناك نسبة للفقر في حياته - وهي نسبة تعرفها كل المجتمعات بغض النظر عن درجة تقدمها أو تخلفها، فالفقراء هم من يعيشون تحت خط الفقر في مجتمعاتهم وهناك دائمًا من يعيش تحت خط الفقر، ولكن تبقي العبرة بشيئين خفض النسبة وتنحيه التهميش، وبالفعل كانت نسبة الفقر تعرف طريقها إلي التراجع في عهد عبدالناصر، فلقد عمدت الثورة إلي إجراءات لتأمين مواءمة التناسب بين الدخول والاحتياجات وعلي الطريق وفي 17 سبتمبر 1952 كان القرار بخفض إيجارات المساكن بنسبة 15% وفي 12 أغسطس 1952 كان القرار بزيادة الضريبة علي الإيرادات العامة بالنسبة لشرائح الدخل العليا فلقد تبنت الثورة مبكرًا آلية المدفوعات التحويلية لتقليص الفجوة بين الدخول وكان من بين المدفوعات التحويلية المبالغ المخصصة لدعم السلع الاستهلاكية الأساسية. كانت نسبة الفقر تتراجع وفي نفس الوقت كان التهميش يتنحي، ففي عهد عبدالناصر كان هناك فقراء ولكن لم يكن هناك فقراء مهمشون والفرق بينهما هو معيار فاصل في حديث الثورة والعدل، فالفقير هو من يعيش تحت خط الفقر ولكنه يملك ثقة في الدولة والدولة بدورها تفي بالتزامات تجاهه، ولكن الفقير المهمش لا يملك ثقة في الدولة ولا تلتزم الدولة إزاءه بأي التزامات وهذا هو الفرق، المعيار الذي نستطيع به أن نفسر لماذا لم يعرف الفقراء في عهد عبدالناصر ظاهرة الفقر الانتحاري أي الفقر الذي قد يقود الفقير إلي الانتحار يأسًا من فقره ؟ وقد يقوده إلي قتل أطفاله خوفًا عليهم من مصير الفقر الذي ينتظرهم أو يقودهم إلي كراهية آدميته حسدًا لكلاب وقطط الشوارع لأنها تحظي بما لا يحظي به من المأكل والمأوي. كان نفي ظاهرة الفقير المهمش هو أحد شواغل عبدالناصر وكاشف به أحاديثه عن عمال التراحيل في الريف، وحاول حصارها بتشكيل لجان حكومية في عام 1962 لتشغيل هؤلاء العمال بدلاً من المقاولين، ولكن الحصار وحده لم يكن كافيا لديه ليعود وفي خطاب له في 1964/3/26 ليتحدث عن عمال التراحيل مؤكدًا أنهم لم يستوفوا حقهم في الأجر المنتظم والمستقر وفي التأمين الاجتماعي وفي الخدمات، كان خطابه بمثابة إعلان عن أن الدولة لن تتخلي عن التزاماتها إزاء الفقراء ولن تفرط في ثقة الفقراء فيها وبعد خطابه بعام 1965 كانت الإجراءات قد بدأت لكهرباء الريف من خلال إنارة مائتي قرية. مرة أخري لم تعرف التجربة الناصرية عدلاً مطلقًا، ولكنها عرفت إقرارًا بحق العدل وخطوات علي الطريق لتفعيله اجتماعيًا وكان هذا هو خيارها المبكر، ففي ديسمبر 1952 تم إلغاء الفصل التعسفي للعمال وهو حق لهم ارتباطا بحق العدل وفي أغسطس 1955 تم إنشاء صندوق لتأمين العمال الذي تطور فيما بعد كمؤسسة للتأمين عليهم في مواجهة حالات الوفاة والشيخوخة والعجز وأيضًا إصابات العمل، وفي ديسمبر 1958 كان هناك القانون الخاص بتنظيم التعويف عن هذه الإصابات وبدت هذه القوانين كأنها دفاعات لحق العدل، فلا قيمة للإقرار بحق بدون الإقرار والتوثيق لدفاعاته وكان من بين الدفاعات ارتفاع الدخل الفعلي الحقيقي للعامل بحوالي 21% في إطار نمط أكثر عدلاً لتوزيع الدخل، ولأنه إقرار بحق العدل فلقد جاء مبدأ تكافؤ الفرص علي لائحة أولويات اعتمدتها ثورة 23 يوليو، فالفرصة المتكافئة هي حق للجميع وبدونها لا حديث عن عدل فالفرصة المتكافئة هي الضمانة بألا يحصل أحد علي مركز قانوني ويحرم منه آخر لاعتبارات لا تتعلق بالكفاءة مثل الطبقة الاجتماعية والنفوذ السياسي والتأثير العائلي والدين.. إلخ وفي عهد عبدالناصر لم يحرم أحد من الحصول علي وظيفة مستحقة وتؤهله لها كفاءته، لأن والديه علي سبيل المثال من صغار المزارعين ولكن في النظام الذي سقط ولا عودة له أيًا ما كان الثمن، كان هناك باحث اختار لنفسه أن يستقر في قاع النيل بعدما حرم من وظيفة مستحقة ويرهن بكفاءته علي استحقاقه لها لا شيء إلا لأنه غير لائق اجتماعيا ولم يكن غير لائق اجتماعيا لأنه اقترف جريمة مخلة بالشرف.. ولكن لأن والديه كان من فقراء الريف! أريد أن أتوقف أمام هذه الواقعة وفي تقديري.. أن المؤرخين سوف يتوقفون أمامها كثيرًا وهم يؤرخون لهذه الحقيقة ويتذكر أصدقاء كثيرون أنني قلت لهم وفي أعقاب هذه الواقعة إن الطريق إلي الثورة بات مفتوحًا.. أريد أن أتوقف أمام مفارقة... ففي عهد عبدالناصر وإعمالا لمبدأ تكافؤ الفرص صعد ضابط علي سلم الترقي الوظيفي وكان والده فقيرًا ويعمل موظفًا بسيطًا في إحدي المحاكم... وهذا لا يعيب الأب أو الابن بقدر ما يدعو إلي الفخر والاعتزاز، ولكن المفارقة عندما صار هذا الضابط رئيسًا للجمهورية... إذا به يحرم إحدي أبناء الفقراء مثله من حقه في الصعود علي السلم الوظيفي بينما كان السلم مستباحًا للصوص وأبنائهم، ولذلك كان الثوار في الميادين يحملون صورة عبدالناصر ويمزقون صورة الآخر ولأنه مبدأ تكافؤ الفرص.. فلقد جري إعلان مجانية التعليم في كل المراحل في يوليو 1962 والمجانية لا تكتسب أهمية فقط في حديث الثورة والعدل... إعمالاً بحق كل طفل في أن يحظي بفرصته في تعليم جيد وفقًا لقدرته وإمكانياته الذهنية... ولقد كان التعليم جيدًا بالفعل في عهد عبدالناصر ولكن إعمالاً أيضًا لحق المجتمع في ألا يحرم من مواهب أبنائه من الفقراء... فهم جزء من ثروته الاجتماعية والمدخرة للمستقبل فحق العدل لا يخص الفرد فقط... ولكن يخص المجتمع أيضًا فلا يمكن لمجتمع أن ينمو بثروته الاجتماعية ويتنامي بها إلا في إطار الإقرار بحق العدل وتفعيله. ولأن العدل هو حق الفرد والمجتمع... ولأن تكافؤ الفرص هو إحدي مرجعيات حق العدل دون أي تميز اجتماعي أو ديني، فلقد كانت المواطنة الاجتماعية هي عقد الوحدة الوطنية في عهد عبدالناصر وكان مبدأ تكافؤ الفرص بين المسلمين والمسيحيين حاضرًا وبصورة محسومة حاضرًا في التعيين في الوظائف وفي الترقي الوظيفي للوظائف الأعلي وحاضرًا في الحياة الثقافية التي احتل فيها العديد من المثقفين الأقباط مواقعهم في الصفوف الأولي ولم يحرموا من مكانة يستحقونها. وفي كلمة أخيرة... فإذا كان الجدل محتدما الآن حول الحد الأقصي والحد الأدني للأجور.. وهو جدل يحتل عنوانًا رئيسيًا في حديث الثورة والعدل، فليس من العدل... ألا يعرف المجتمع حدًا أدني للأجور يؤمن الاحتياجات الأساسية للفرد وأسرته وليس من العدل... أن يعرف المجتمع حدًا أقصي لأجور وبدون سقف... لأن إزاحة السقف يدمر قيمة العمل، وهذه القيمة هي إحدي مرجعيات حق العدل، فمن يعمل يحصل علي قيمة جهده ومن حق الجميع أن يتساءلوا... ما هو العمل الذي كان يقوم به الجالسون علي المقاعد في النظام السابق ويتقاضون من خلاله أجورا ومكافآت بلا سقف؟ ويبدو السؤال مشروعا أكثر فأكثر عندما يسبقه وعي الجميع وعلمهم بأن بعض من جلسوا علي هذه المقاعد - وفي النظام السابق - لم تكن تؤهلهم قدراتهم وإمكاناتهم للحصول علي صورة تذكارية بجانب المقاعد التي جلسوا عليها، ومن حق الجميع عندئذ - أن يتذكروه وهو يرحل عن عالمنا وليس في رصيده البنكي شيء يذكر. وبعد.. كانت لعبدالناصر أخطاؤه وكانت له إنجازاته ومن بينها العدل الاجتماعي، وعندما نختار لأنفسنا طريقًا إلي المستقبل بصحبة ثورة 25 يناير فلسوف نكون حريصين علي أن يكون في رفقتنا العدل الاجتماعي، فمن أجله قامت ثورات ومن أجله سوف تقوم ثورات... فهو حق أصيل للناس في كل مكان وفي كل زمان إنه الحق الذي نطقت به كلمات الله عز وجل وهي تقول (وأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)... صدق الله العظيم.