كتبت – نشوى يوسف فى ظل النفى الدائم من جانب الحكومة التركية بأن السبب وراء انتشار حالات الانتحار الجماعية وارتفاعها فى الآونة الأخيرة هى الأزمة الاقتصادية، إلا أنه وفى اعتراف ضمنى أكد وزير البيئة والتخطيط العمرانى التركي، مراد كوروم, إنهم يدرسون حظر مادة السيانيد السامة، بعدما باتت مسئولة عن عدة وقائع انتحار فى الفترة الأخيرة، قائلا "نقوم حاليًا بإجراء تعديلات تشريعية لحظر بيع المنتجات التى تحتوى على مادة السيانيد فى السوق وعبر الإنترنت». تصريحات وزير البيئة والتخطيط العمراني، مراد كوروم، جاءت بعد وقائع الانتحار الجماعى المتتالية فى الأيام الأخيرة باستخدام مادة السيانيد السامة. وعلى مدار ال10 أيام الأخيرة، يشتبه فى التسمم بالسيانيد فى 3 حالات منفصلة لانتحار أسر فى تركيا شهدت وفاة 11 شخصًا. وتفيد تقارير بأن الانتحار فى الحالات الثلاث بسبب المشاكل الاقتصادية. ففى 15 نوفمبر الجاري، أقدم أب فى إسطنبول، تردد أنه مدين بمبالغ طائلة، على تسميم زوجته وابنه البالغ من العمر 6 أعوام بالسيانيد، وفقًا للوكالة. وقبلها بأسبوع عُثر على أسرة من 4 أفراد موتى بسبب تسمم بالسيانيد فى أنطاليا، وترك الأب رسالة شرح فيها أنه بلا وظيفة منذ 9 أشهر، وعجزه عن الاستمرار على هذا الحال. كما عثر على شقيقتين وشقيقين موتى فى 6 نوفمبر الجاري، فى شقتهم بإسطنبول بسبب تسمم بالسيانيد. وكان الأربعة يعانون مشاكل مالية. وأوضح معهد الإحصاء التركى فى الأسبوع الماضى أن حوالى مليون تركى فقدوا وظائفهم بين أغسطس و2018 أغسطس 2019. وبحسب بيانات، انتحر 3 آلاف و161 شخصًا فى 2018، أى ما يعادل انتحار 9 أشخاص فى اليوم. ووفقا للبيانات الرسمية لمعهد الإحصاء التركى التى نشرها موقع تركيا الآن، فإن عدد حالات الانتحار فى 2002 هو 2301، وفى 2003 بلغ 2707، واستمر عدد حالات الانتحار على هذا المنوال، وكانت أعلى نسبة انتحار فى 2012 بلغت 3287، بينما كانت فى 2011، 2677. وارتفعت فى غضون عام 23%، وفى 2013 كانت 3252، وفى 2014 وصلت إلى 3169، وفى 2015 بلغت 3246، وفى 2016 أصبحت 3193، وفى 2017 تخطت 3168، و2018 سجلت 3161، وهذا ما يعادل انتحار 9 أشخاص فى اليوم، وحالة انتحار واحدة كل 166دقيقة. وبالنظر إلى سبب حالات الانتحار، وجد أن نسبة كبيرة منها غير معروف، حيث إن هناك 1155 من 3161 منتحرًا فى 2018 أى ما يعادل 37% غير معروف السبب، وذلك وفقا لبيانات معهد الإحصاء التركى، وذكرت البيانات أن 27% منهم انتحروا لأسباب أخرى، إلا أن هذا لم يتضمن ما هى الأسباب الأخرى، و21% من الحالات المعروف سببها كانت بسبب المرض، وبلغ عدد الأشخاص الذين انتحروا بسبب «صعوبة المعيشة» 246 شخصًا أى ما يعادل نسبة 8 %. خلال الفترة الأخيرة تم الحديث بإسهاب فى وسائل الإعلام التركية والمواقع الاجتماعية عن سلسلة الانتحارات والتى تروج لنظريات المؤامرة. والمثير للجدل هى العلاقة القائمة بين الأزمة الاقتصادية فى تركيا وعمليات الانتحار التى ارتبطت بالبطالة وانهيار الليرة التركية اللذين أسهما فى انتشار جو من اليأس، كما ترى المعارضة. حزب الشعب الجمهوري، كمال كيليتشدار أوغلو رئيس أكبر حزب معارض، أثار فى كلمته الأسبوع الماضى حول حالات الانتحار متسائلًا: «لماذا حصل هذا؟ فبالقرب من حاويات النفايات نرى نسوة يبحثن فى القمامة عن الأكل. نحن بحاجة إلى دولة اجتماعية. نحن نحتاج إلى مزيد من الاستدامة». وقالت المعارضة التركية، غامزى أكوش إيجازدي، فى تقرير لها: إن 223 تركيًا انتحروا بسبب الصعوبات الاقتصادية فى عام 2017، وهذا الرقم جاء قبل تفاقم مشاكل تركيا الاقتصادية، مثل انهيار قيمة الليرة إثر العقوبات الأميركية. ومن ناحيتها، كتبت القيادية البارزة فى حزب الشعب الجمهورى المعارض، جنان كفتانجى أوغلو، تعليقا على حوادث الانتحار «إن الصدمة الاجتماعية بسبب الشعور بغياب المستقبل والأمن وصل إلى مستويات لا تطاق». من جهته، كشف حزب العمال أن 47 ألفًا و537 واقعة انتحار حدثت فى عهد حزب العدالة والتنمية. وقالت أمانة حزب العمال بمدينة إسطنبول فى بيان من ميدان ميناء كاديكوى بمدينة إسطنبول: إن المواطنين يلجأون إلى الانتحار بسبب الأزمة الاقتصادية. وألقت البيان رئيسة شعبة الحزب بمدينة إسطنبول، سما بربروس، حيث استهلت حديثها بالإشارة إلى وقائع الانتحار المتزايدة وتزايد معدلات الفقر. وأضافت سما, أنه فى المرحلة الحالية بات العمال يواجهون صعوبة فى توفير قوت يومهم، مشيرة إلى اتهام من يكشفون الحقائق وينتقدونها بالإرهابيين. وأوضحت أن الإحصاءات تكذب المشهد الوردى الذى ترسمه السلطة الحاكمة، مفيدة أن معدلات البطالة بلغت ذروتها خلال آخر خمسة عشر عامًا، وأن عدد العاطلين ارتفع بنحو 980 ألف شخص خلال العام الأخير ليسجل 4 ملايين و650 ألف عاطل. حيث تصل نسبة البطالة فى تركيا إلى 14 فى المائة. والبطالة بين الشباب إلى 27 فى المائة. والتضخم أدى إلى ارتفاع الأسعار فى مواد استهلاكية أساسية مثل المواد الغذائية والأدوية أو البنزين. هذا وأشارت سما إلى أن تركيا شهدت 47 ألفًا و537 واقعة انتحار فى عهد العدالة والتنمية، مؤكدة أن النضال الممنهج من أجل حياة إنسانية هو السبيل للنجاة ممن يضعون حياة الأتراك فى خطر. ويرى الخبراء الأتراك أن سلسلة الانتحارات ليست حالات متفرقة« من الخطأ اعتبار الانتحار قضية فردية ونفسية بحتة»، حيث تقول الباحثة فى قضايا الفقر، هاجر فوغو من نادى Cimen Ev أن الانتحار تسبقه فى الغالب أسباب اجتماعية «هؤلاء الناس لا يلقون الاعتبار فى المجتمع. يشعرون بأنهم لوحدهم ودون مساعدة. وإذا أضيف لذلك متاعب اقتصادية واحتياجات أولية مثل الأكل والماء والكهرباء التى لا تلقى الحل، فإن المشاكل تزداد حدة». ودائما ما تنفى الحكومة التركية وجود علاقة بين الأزمة الاقتصادية وعمليات الانتحار. وبالنسبة إليها فإن الانتحارات مؤشر على أنه فى تركيا لا توجد عقبات للحصول على السيانيد المسموم، إذ يجب فرض حظر وترشيد. ومنذ يونيو الماضي، شدد حزب الحركة القومية المشارك فى الائتلاف الحكومى على ضرورة حظر سيانيد الهيدروجين. وشكلت وزارة العائلة التركية لجنة للتحقق من الحوادث. والتقرير وجب عرضه على الرأى العام. مؤيدو أردوغان يربطون بين الانتحار والإلحاد وفى محاولة منها لتفسير الأمر، كشفت الروائية التركية الشهيرة إليف شافاق، فى مقال منشور لها بصحيفة «الجارديان» البريطانية تحت عنوان «انتحار أسرة يكشف عن مجتمع فقد الأمل»، وذكرت تفاصيل القصة وربطتها بمتغيرات اقتصادية يعانيها المجتمع التركى حاليًا. وارتفع سعر الكهرباء 10 مرات فى تركيا هذا العام، بمقدار زيادة إجمالية بلغت نحو 57 فى المائة، وبلغت البطالة نسبة 27 فى المائة، وهى الأسباب التى يدفع بها قطاع واسع من التيار الديمقراطى والليبرالى لتفسير ارتفاع معدلات الانتحار فى السنوات الأخيرة. ويخالف هذا الطرح الأصوات المؤيدة للحكومة التى تتهم كُل من يحاول الربط بين وقوع هذه الحوادث والأزمات الاقتصادية بالخيانة والعمالة لجهات خارجية، وابتداع أسباب أخرى للانتحار، كالزعم بوجود كتاب عن الإلحاد بمنزل الأسرة الأخيرة، والربط بينه وبين انتهاء حياتهم. غير أن رواية داعمى الحكومة لتفسير حالات الانتحار بقراءة كتب فى الإلحاد لم تصمد أمام حالة الأسرة التى انتحرت فى أنطاليا قبل أيام، بعدما أقدم أفرادها على تناول جرعة زائدة من مادة سامة، لتنتهى حياة أربعة أفراد، بينهم طفلان فى الخامسة والتاسعة من عمرهم. وترك الأب، العاطل عن العمل منذ فترة طويلة، رسالة يشرح فيها الصعوبات المعيشية التى اضطرته لهذا الخيار الصعب. وتضيف شافاق، عن أن من يكتب أو يربط بين سوء العوامل الاجتماعية والاقتصادية والارتفاع الكبير فى حالات الانتحار ينتهى به الحال للتعامل معه بصفته «خائنًا» من جانب وسائل الإعلام الموالية للسلطات. وتقول: إن هناك مقترحات لتمرير تشريعات وقوانين عقابية بحق الأكاديميين والاقتصاديين الذين يقدمون تنبؤات قاتمة عن الاقتصاد التركي.