«بقدر ما تتطور التكنولوجيا فى العالم كله يطور مزورو الآثار والتاريخ أدواتهم»..حقيقة واضحة كشفت عنها وقائع وحالات عديدة، ولم يعد الأمر مجرد صناعة نماذج بدائية وسيئة للاحتيال بها على آخرين، ووصل الأمر لأن تنخدع متاحف عالمية فى آثار اكتشفت بعد اقتنائها لسنوات عدة أنها مزيفة وليست أصلية، ما دعا الآثاريين والعاملين بالآثار لمضاعفة جهودهم وخبراتهم لكشف ورصد أوجه وملامح تزييف المواد والصخور والأحجار المستخدمة فى تشكيل النماذج الأثرية قديماً، وتزوير النماذج الأصلية بالحذف أو الإضافة للتضليل وطمس الحقائق..وما بين هذا وذاك يأتى هذا التحقيق. قبل أن نبحر فى تفاصيل التحقيق وما كشفه لنا متخصصون،نضع نصب أعيننا مثالا مهما فى مصر ألا وهو رأس ابنة إخناتون التى يوما بعد يوم تزيد الحيرة بين الأثريين أكثر من غيرهم،كونها حتى الآن لم يفصل أحد فى أثريتها من عدمه،والأكثر إثارة أنها موجودة حاليا فى حوزة المتحف المصرى بالتحرير لحين الفصل فيها،حيث تم اكتشافها فى أحد مكاتب وزارة الآثار قبل عدة سنوات داخل كرتونة مياه معدنية فى أحد المكاتب،وقد شكلت لها 3 لجان تضم خبراء إحداها قالت أنها أثرية ولجنتان قالتا أنها غير أثرية،والمفاجأة أن باحث إنجليزى قام مؤخرا بعمل بحث ودراسة ومقارنات أثبت أنها أثرية. فى البداية كشف د.على أحمد أحمد المشرف على المكتب الفنى لوزير الآثار أن العملات وتماثيل الأوشابتى أكثر مايتم تزييفه،ومنذ عام 1912 حتى عهد الملك فاروق انتشرت عمليات تقليد بارعة للآثار،وأغلبها كان لعائلة إخناتون وتماثيل أوشابتى، وكان المزور يأتى من أى معبد بقطعة حجرية قديمة بلا نقوش،ليقوم هو بنسخ أى نقش أصلى عليها،أو أن يأتى بلوحة حجرية من معبد لا تحمل أى نقوش ويقوم بنقشها،ثم يأتى بكتان مومياوات من مقابر مجهولة ويكفن الكتلة الحجرية به،ويدفنها فى الأرض لفترة لتكتسب صفات الأثر القديم. وعن فكرة وجود قطع مزيفة فى المتاحف الكبرى بالعالم،قال إن متحف اللوفر كانت به قطعة طوال عشرات السنين،وبعدها تم التأكد أنها غير أثرية وتم حذفها من كتالوج المتحف،وفى بلجيكا رأيت فى أحد متاحفها قطعة شككت فى أثريتها،وبعد فحصها تم التأكد أنها فعلا غير أثرية وقالوا إنها إهداء من قنصل بلجيكا فى الإسكندرية واشتراها من تاجر على أنها أثرية، والقنصل أهداها للمتحف. تفاصيل أخرى ورؤية مختلفة كشفها لنا الدكتور أحمد بدران أستاذ الآثار المصرية بكلية آثار جامعة القاهرة،حيث قال إنه فى مصر هناك قطع أثرية فى المخازن والمتاحف مشكوك فى أثريتها وحقيقتها، كما أن أعظم المتاحف فى العالم مثل اللوفر والميتروبوليتان والبريطانى وبرلين كانت بها فى بعض الفترات قطع ليست أثرية. وأكد أن عدم التحقق من أصالة القطع الأثرية يمثل استنزافا للتراث والهوية،لافتا أن الموقع الذى تم استخراج القطعة منه وتنسب إليه من أبرز عوامل كشف حقيقة الأثر من زيفه،كذلك البيئة المحيطة ودلالاتها،وما يمثله للحضارة والعصر الذى ينسب إليه، كما أن النص والكتابات والخرطوش له دور كبير جدا فى التحقق من أثرية القطعة، كذلك مادة الصنع وطبيعتها والعلامات التى تؤكد أثرية القطعة. وأشار إلى وجود 3 مصطلحات مهمة يجب التفريق بينها فى هذا الإطار،أولها “ريبيلكا” وهى نسخة طبق الأصل، ولصناعتها لا بد أن يكون أمام الصانع النموذج الأصلى للقطعة الأثرية نفسها،و”كوبي” وهى نسخة مقلدة وتصنع بناء على مفهوم العصر الذى ينتمى له الأثر،والثالث هو القطع التى تستخدم فى عمليات النصب والاحتيال بالإيحاء أنها حقيقية، والحل من وجهة نظر بدران أنه لا بد من إنشاء مركز علمى يضم خبراء من تخصصات مختلفة بجانب تخصصات الآثار،وهذا المركز يضع معايير للكشف عن أصالة الأثر ومدى أثرية القطعة من عدمها. من جانبه كشف الدكتور مدين حامد عبدالهادى مدرس علاج وصيانة المخطوطات والوثائق الأثرية بكلية الآثار جامعة الفيوم، عدة وقائع ذات دلالات مهمة فى هذا الإطار،منها تمثال أسيوط فى 25 أغسطس2017م،حيث تم الدفع بأثرية تمثال من لجنة شكلتها وزارة الآثار استناداً إلى مادته وتطابق ملامحه ودقة تشريحه والفترة الزمنية له،هذا رغم زيفه الواضح من خلال الحس الأثرى والعين المجردة الخبيرة، ما دفع وزارة الآثار لإعادة فحصه ومعاينته ليثبت زيفه وعدم أثريته. كذلك آثار مكتشفة بمنزل مواطن فى إدفو بأسوان فى 25 سبتمبر2017م، والحكم بأثرية قطع عند المعاينة رغم زيف لوحتى تقديم القرابين من الحجر الرمل والجيرى ضمن محتوياتها، فلا وجود لمظهر القدم الطبيعى على سطح مادتيهما مطلقاً،ومصحف جامعة برمنجهام البريطانية فى 14سبتمبر2017م،حيث قدر باحثو الجامعة عمره إلى ما قبل بعثة النبى محمد”ص” اعتماداً على نتائج تقدير عمره بالكربون المشع،دون الوضع فى الاعتبار مادة تدوينه من حبر لم يحددوا ماهيته،وإن كان التقدير حقيقياً – رغم نسبة الخطأ الواردة – فلم يدركوا أن حوامل المخطوطات قد يجرى تحضيرها فى فترة تسبق زمن تدوينها أو نسخها،ورغم استخدام تلك الجلود قبل وبعد بعثة الرسول”ص”، لكنه محض افتراء بمعاونة من الجانب الإسرائيلى للنيل من عقيدتنا وتاريخنا. وهناك أيضا البردية المعروفة إعلامياً ببردية زواج السيد المسيح عليه السلام،التى بيعت من أحد الباعة الجائلين لمتحف ألماني،وكانت مزورة نظراً لاستخدام قطعة أثرية من البردى غير المدون والخالى من الكتابة لتدون وتكتب بخط قبطى لم يرد فى فترة حياة السيد المسيح. وأوضح مدين أنه أورد الاختصاصيون والآثاريون العديد من الملامح والمعايير التى يمكن الاعتماد عليها لكشف الزيف والتزوير،لا سيما تلك الحاسمة من وجهة نظرهم كمادة الأثر أو المقتنى ولونه ووزنه وأبعاده وطريقة نحته وشكل الكتابات والنقوش، مع وسائل الكشف كاختبارات الحرق والملمس والصلابة، فضلا عن تقنيات تقدير العمر كالوميض والتألق الحرارى والكربون المشع، واختبار الفلورين للعظام والبقايا الآدمية وحلقات الخشب، والدراسة بتقنيات التصوير والتحليل كالأشعة فوق البنفسجية والأشعة تحت الحمراء والفصل الكروماتوجرافى للملونات والصبغات، وطرق الفحص بالمجاهر المختلفة وطرق التنشيط الإلكترونى والنيتروني،وطرق التحليل الكيميائى الأخرى. وتابع: ورغم هذا فإن تلك النتائج التى يمكن الحصول عليها من تطبيق هذه المعايير وطرق التحليل والفحص لا تحقق يقيناً كاملاً للفصل بين الحقيقى والمزيف، ولا تكشف ملامح التزوير فى النماذج الأصلية، لأن الكثير منها لا يعطى نتائج دامغةً مباشرة،وتحتاج إلى خبير على دراية واسعة بالنتائج التى تفرزها تفاعلات تلك المواد مع خلفية تاريخية وفنية والإلمام دوماً بأشكال ونماذج الكتابات والنقوش والزخارف. وقال: كما أن بعض تلك التقنيات والمعايير لا تفى بالغرض المقدم سلفاً، لا سيما وإن تطابقت النماذج المزيفة ونظيرتها الأثرية، ففى الحالتين تعطى طرق التحليل نتائج متشابهة إلى حدٍ كبير، كما أن المقارنة بين الكتابات والنقوش والزخارف غير دامغة فيهما لتناظر مفرداتهما أيضاً، والاعتماد على المعايير والتقنيات السابقة من اختصاصى الترميم والآثاريين هى أمور استرشادية غير دامغة، للدفع بأثرية القطع المكتشفة أو الواردة بالضبطيات والمعاينات والمنافذ الأثرية، ولا تمثل إلا وسائل مساعدة إذا ما كانت هناك شكوك أونقص فى الخبرة وغياب الحس الأثرى لفاحصيها، لاسيما أنها لاتعطى إلا نتائج تحتاج إلى تفسير وتحليل من قبلهم، وإلا ما كانت بعض المتاحف الأوروبية قد أودعت بقاعات عرضها نماذج مزيفة وأخرى مزورة فى أصولها رغم امتلاكهم الإمكانات والتقنيات اللازمة للتحقق من أصالتها وأثريتها. وقدم مدين تحليلا علميا لوسائل ومعايير كشف تزييف الآثار، مشيرا إلى أن تلك المعايير والتقنيات تعتبر مفيدة إذا ما اختلفت مواد الصنع والتشكيل للمزيف والحقيقي، لكن ما الحال حيال النماذج المزيفة التى تطابق نظيرتها الأثرية؟، هنا تبقى العين الخبيرة لاختصاصى الترميم والآثارى هى المنوط بها كشف ملامح ودلالات التزييف والتزوير بشكلٍ جلى يدمغ حجة صاحبها ويدحض آراء المعارضين له، بجانب المهارة وحسٍ الأثرى، وهو ما يجنبنا استخدام أدوات ومعدات للفحص والمعاينة، الكثير منها يعد متلفاً لمادة الأثر وهو أمر مرفوض. واعتماداً على مسألة التشريح والملامح الفنية لمدارس النحت والتصوير المختلفة،كأن يقال أن لتماثيل خفرع نظرة للأعلى أو المثالية والواقعية أو لأمور تقتضيها الظروف والعقائد، وغير ذلك من السمات الفنية الفاصلة بين المزيف والحقيقى - حسب نظرياتهم- فإنها لا تؤسس إلا للبحث عن ملامح التطابق والتناظر لسمات معينة لفترةٍ زمنيةٍ محددةٍ وعصرٍ معين،لكن هل يعد هذا دليلاً دامغاً على أثرية وأصالة النماذج محل المعاينة والفحص،لا بل هو خطأ بدوره، لا سيما أن هناك تقنيات وأدوات حديثة يمكنها محاكاة الأصل ومعالجته بمنتهى الدقة والاحترافية مثل 3D Scan and، وعليه فالعين المجردة المدربة هى الفاصل والدامغ فى هذا. وتابع: فى الآونةِ الأخيرةِ دأب المزورون على محاكاة الأصول الأثرية بمواد من خلاصة ومساحيق المواد المستخدمة فى تنفيذها، حيث يلجأ هؤلاء إلى استخدام أسلوب الصب والقوالب فى إنتاج نماذجهم المزيفة بشكل احترافى فريد، وآخرون يلجأون إلى استخدام مساحيق ومجروش الصخور والأحجار مع إضافات أخرى كخام الحديد الزهر والملونات وبأسلوب الصب أيضاً لإنتاج المستنسخات، وخضوع بعضها للمعالجة السطحية أو التقادم المعجل حسب نوعه المطلوب وفق الغرض المحدد للمطابقةِ والمماثلة. وقال: أما إذا كان الأمر يتعلق بمقتنيات الذهب ونماذجه كتماثيل الأوشابتى والخواتم والحلى المختلفة وغيرها، فهل يكفى أن تكون من الذهب لتوصف بأنها أثرية؟ بالطبع لا، فالمزورون يستخدمون الذهب الخالص محاكاةً لنماذجه الأثرية فى صنع وتشكيل وتكفيت أو تصفيح نماذجهم المزيفة تلك، وعليه فإن القائم بفحص ومعاينة مقتنيات الذهب باستخدام عدسة مكبرة على سبيل المثال لابد وأن يجد التشققات غير المنتظمة فى نماذجه الأصلية، يقابلها أسطح ملساء ناعمة لا تعتريها تلك التشققات فى نماذج المحاكاة المزيفة،وهنا يبرز دور وخبرة اختصاصى الصيانة والأثرى لحل تلك الإشكالية دون الاعتماد فقط على تحديد مادة الأثر. أما إذا تعلق الأمر بالمواد العضوية كالبردى والجلد والخشب والورق والنسيج، فهناك اختبار النار أو الحرق للسليلوز والبروتين، والفلورين للعظام والبقايا الآدمية، وقياسات التغير اللونى باستخدام أجهزة قياس اللون أو أجهزة قياس طيفه،وتعد كلها ناجزةً فى الفصل بين النماذج الأثرية والمزيفة فى حالة اختلاف مادتيهما، أما إذا تطابقتا فى هذا فلا طائل منها، فالرماد المتخلف عن الحرق واحد والرائحة والتغير اللونى متطابق، ما يدعم ملكة كشف المزيف من الحقيقى والخبرة المكتسبة مع الوقت فى كشف زيفها أو تزويرها من عدمه، لذلك فإن كشف زيف النماذج المقلدة أو أوجه التزوير وملامحه فى النماذج الأثرية دون الاعتداد بالحس الأثرى والخبرة والدراية بالجوانب الفنية التى تلحظها العين وتميزها غير مجد، مع الاستناد إلى فهم طبيعة وكيمياء مواد الآثار وتفاعلاتها المميزة لها عند تقادمها طبيعياً، بالتدريب المتواصل والتطبيق الفاعل لآليات التحقق من أصالة المواد والنماذج المختلفة.