مقاهي وسط البلد ... هي ترمومتر كل الأحداث في البلد، الحميدية.. التكعيبة.. البستان.. جولدستار، التي أصبحت "قهوة الثورة" الآن..ريش..الندوة وأيضا «الخن». مقاه يجلس عليها العديد من المثقفين والأدباء والكتاب والتشكيليين، يتندرون ويتجاذبون أطراف الحديث عن الحياة الثقافية عموما والمشاكل، ولا بأس من النميمة التي تعطي مزيدا من النكهة لزوم «القعدة»، أيضا الجلسات الموازية بأتيليه القاهرة وميريت التي تتبني الثورة منذ بدايتها وأصبحت مركز قيادة للثورة. هذه المقاهي يتوافد إليها الجميع من كل صوب، حتي مثقفي الأقاليم والوافدين من خارج مصر لابد أن يمروا علي وسط البلد ليأخذوا من بركاتها الثقافية، قبل "25يناير" كانت السخرية السوداء من الأوضاع السيئة والحالة الثقافية التي تسيطر عليها الشللية ومشاكل النشر، كانت أبرز الموضوعات علي موائد الشاي والقهوة، لكن كيف هو الحال بعد "25يناير"؟ المثقفون بيتكلموا في إيه في وقت التنقل من وإلي الميدان؟! الفنان محمد عبلة يتحرك ما بين خيمته بالميدان والأتيليه ومرسمه في شارع علوي، ورغم أنه يعيش بوسط البلد لكنه يبات في خيمته بالميدان التي أصبحت مكانا آخر جديدا لجلسات ثقافية، لكن أكثر موضوع مسيطر عليه هو: "المشكلة عندنا نحن الثوار عدم وجود خيارات عديدة. تناقشت معه حول حالة الميدان وأنها لا تشبه حالته في أيام الثورة، فاتفق معي في الرأي وقال إنه مفكك، فلقد لاحظ تضارب الآراء بين الناس في الميدان، وكأن الميدان ينفجر من داخله، وأصبح الناس يخرجون من الميدان بوعود وآخرون باتفاقات، واشار إلي أن المشكلة ليست في استمرارية الاعتصام أو فضه فليس الفض هو الحل الأمثل، لأنه في النهاية البلد دي بلدنا كلنا، نعيش عليها جميعا. الفنان أيمن السمري يشارك عبلة جلساته وأحاديثه، لكنه أثار نقاطا إضافية وجوهرية لحوار عبلة، قائلا: "أهم موضوع الآن هو فكرة التطوير في نتائج الثورة، فالثورة قد قامت بالفعل ولابد من فتح صفحة جديدة حقيقية، أول سطر فيها هو محاكمة الفاسدين وقتلة الثوار، ليكونوا رادعا وعظة للنظام القادم وتداركا للمأساة الضخمة التي أدت لقيام الثورة". النقطة الخطيرة من وجهة نظري، أعتقد أن فلول النظام السابق غيرت من أسلوبها من البلطجة وإثارة الفتن إلي ارتداء ملابس الثوار، فأتمني أن يكون لدي الناس الوعي الكافي لاكتشافهم وقراءة ما بين السطور بسرعة، فالثوار لن يطالبوا بإغلاق القناة ولا بإحراق خطوط الغاز، هم ثوار وليسوا مخربين" واختتم رؤيته بأنه يريد أن يظل الجيش هو الحامي للشعب الآن . ذهبت إلي دار "ميريت"، فهي من أهم المجالس بوسط البلد قبل وبعد الثورة، وزادت الأهمية حينما تكونت حركة أدباء وفنانون من أجل التغيير التي تأخذ في تفعيل دورها الآن، قابلت الشاعر إبراهيم داود الذي دعا إلي تعليق فوانيس رمضان كرسالة لاستمرارية الاعتصام بالتحرير فهو يؤمن أن الثورة تسرق الآن، فسألته وما هو الحل للحفاظ علي الثورة؟ فكانت رؤيته: "إحنا أحسن شعب يعمل ثورة ويسيبها ويمشي!" وأضاف: "إن دم الشهداء في رقبتنا جميعا، وأي تخل عن أحداث الثورة هو خيانة للشهداء، فالنظام لابد أن ينتهي بمعارضيه، لأنهم كانوا موجودين للتنفيس، فهم كانوا مستفيدين أيضا إنما بطريقة أخري بدليل الملايين! مستحيل يكونوا حصلوا عليها من الصحافة! فما يحدث في الإعلام الآن هو عبث، فلابد أن يخوض الشارع معركة ضد هذا الإعلام وضد المدعين أنهم أصحاب الثورة وأنهم يخوضون معارك من أجل الثورة!" علي مقهي زهرة البستان يجتمع دوما الروائي إبراهيم عبد المجيد والروائي مكاوي سعيد وآخرون، عبدالمجيد أصبحت السياسة والثورة هي المسيطرة عليه وعلي مقالاته الأسبوعية، وهو من روادي الميدان الدائمين، عبدالمجيد يحاول أن يرصد ما يحدث علي مدار الشهور الخمسة الماضية، ويتوقف عند محاكمة قتلة الثوار التي لم تتم حتي الآن! ويقول عبد المجيد: الغريب أن القضايا يتم تأجيلها وبعض القيادات تمت ترقيتهما! في ظهيرة الأحد الماضي الشاعر عبدالمنعم رمضان نزل وسط البلد لزيارة الميدان أولا ثم علي مقهي البستان بمصاحبة الصحفي محمد شعير والناشر هشام قشطة، وكان حوارهم متنوعًا في صميم الثورة، ومن أكثر الموضوعات سيطرة يقول رمضان: نية نقل مجمع التحرير إلي مدينة نصر، حسب ما ذكر بالصحف، أصبحت موضوعا محل تندر وسخرية! أيضا ما يحدث أواخر الليل في كل ليلة اعتصام من توافد للبلطجية إلي الميدان وكأنهم باحثون عن مأوي، الأجمل أن المعتصمين الحقيقيين يمنعونهم ويستقبلونهم بالصفارات ثم التصفيق وهم يهتفون قائلين "الجدع جدع والجبان جبان" لنجد هؤلاء البلطجية وقد صمتوا في أماكنهم وتسمروا!". علق رمضان علي شائعة أن الشرطة العسكرية ستهاجم المعتصمين لفض اعتصامهم، لكن الجميع أجمع أنه لن يحدث، وبالفعل لم يحدث، يري رمضان أسبابا عدة لاستحالة حدوث مثل هذا الأمر، معللا: أولا الميدان أصبح علي شاشات العالم، كما أن الجيش المصري عقيدته العسكرية تمنعه من ضرب الشعب. موضوع آخر يدور في الأفق وهو التغيير الوزاري، لكن المثقفين غير آبهين بشكل حماسي لما سيأتي به التشكيل الوزاري الجديد، وكأنهم -لايزال الحديث مع رمضان- لايثقون بالتشكيل الجديد. في هذه الجلسة كان التندر والسخرية مما يحدث واضحة جدا في الحوار المتصل، خاصة أحداث "روكسي" في الجمعة الماضية. الروائي سعيد الكفراوي شاهد عصر علي وسط البلد ومقاهيها وأحاديثها منذ الستينيات، بدءا من حلقة نجيب محفوظ بكافيه "ريش" مرورا بالعديد من المقاهي الأخري دون تفضيل لأي منها علي الأخري، انتهاء بأتيليه القاهرة فهو يري أن وسط البلد هو تعبير كامل وواضح عن أحوال مصر، فهو يتساءل الآن في جلساته المسائية كيف ستتجاوز مصر هذه المرحلة وكيف سينتهي الصراع؟ هل استطاعت مصر اقتلاع الفساد من جذوره؟..يحاول مناقشة حالة الديمقراطية القادمة والمجتمع المدني، كل هذه التساؤلات يرجعها إلي أحاديث ثقافية فنية، فالكفراوي مشغول بالسؤال الكبير وهو كيف التعبير عن حالة وإيقاع وتجلي مشهد ما حدث في "25يناير"؟ .. في هذا يقول الكفراوي :" أنا لست ضد ما كتب بشكل سريع، لكنني أنتظر كتابة أعمق وأكثر فهما علي مستوي كل وسائط التعبير من الفنون التشكيلية والمسرح والسينما والدراما وكذلك التعليم ثم الأدب، فهذا ما يشغل تجمعات وسط البلد القديمة كالتكعيبة والأتيليه والحميدية" أكد الكفراوي أنه لو تغيرت مصر ستتطور وسط البلد وتستعيد روح مصر في الحقبة الليبرالية، حين كانت الثقافة تطرح أول أسئلة التغيير.