بين "مصر" و"العجب" صلة أوثق من القرابة والنسب، فهما ألفان يمتزجان حتي لا تدري في أيهما تعيش وبأيهما تصاب. إذ يختلط الأمر، أو لا يختلط، لتجد نفسك مقيما في "العجب" ومصابا ب"مصر"! مصر يا أم العجايب، هكذا غني لها "سيد درويش". يا بلدنا يا عجيبة، هكذا وصفها "الماحي". و"المعجباني" صفة يعتز بها أبناء البلد. تأبي مصر أن تقف عجائبها عند الأهرام، ودهشتها علي أطراف المسلات، بل تصر علي أن تكون "مُعْجِبَةً" دائما، من أول حالة المرور في شوارعها، إلي ثورة يناير التي عقدت ألسنة العالم عجبا وإعجابا. مع ملاحظة أن مساحات "الإعجاب" للأسف تتراجع، مفسحة المجال لنمو "العجب" وامتداده. ومن "العجب" أن تتواصل محاكمة مبارك وأركان نظامه أمام القضاء المدني، بينما يحال الإعلاميون وغيرهم من المدنيين إلي محاكم عسكرية، في تبادل عجيب للمواقف والمواقع، مع أن القضاء العسكري هو القاضي الطبيعي لعدد من عناصر النظام السابق، علي الأقل بالنسبة لكل من "حسني مبارك" و"حبيب العادلي"، حيث الأول كان القائد الأعلي للقوات المسلحة ورئيس المجلس الأعلي لهيئة الشرطة، والثاني وزير الداخلية، وهما معا متهمان بارتكاب جرائم تتصل بصفتهما العسكرية. بينما القضاء المدني هو القاضي الطبيعي للإعلاميين والمدنيين عموما، فلماذا يحاكم كل طرف أمام القاضي "غير الطبيعي" بالنسبة له؟ سألنا لنعرف السبب، ويبطل العجب، لكننا عرفنا السبب فزاد العجب! قالوا يا رعاك الله إنهم يحاكمون "مبارك" و"العادلي" وغيرهما أمام محاكم مدنية حتي تكون المحاكمة ونتائجها مقبولة من المجتمع الدولي، الذي لا تعترف مواثيقه بالمحاكم العسكرية والاستثنائية. وأضافوا أنه بالنسبة ل"مبارك" خصوصا، من المهم أن تكون المحاكمة أمام هيئة مدنية حتي يمكن استرداد أموال مصر التي نهبها وهربها. قلنا: حسنا، فلم تحاكمون المدنيين أمام محاكم عسكرية؟ قالوا: لأنها أسرع وأحكامها أشد ردعا!! الكلام "من عندهم" وعلامتا التعجب "من عندي"، واحدة لأؤكد عجبي الشخصي، والأخري لمن أراد أن يشاركني العجب من تبرير متناقض لوضع مقلوب، ولنسر مع الكلام خطوة خطوة: زعم أن المحاكمة المدنية ضمانة لاسترداد الأموال المهربة مردود، لأن "يوسف بطرس غالي" محكوم عليه بالسجن من محكمة مدنية، ومع ذلك فهو هارب، بأمواله، وبريطانيا ترفض تسليمه (بدعوي عدم وجود اتفاقية لتبادل المجرمين) ما يعني أنه يمكنها الاستناد إلي ذرائع مماثلة لعدم رد أموال مصر التي هربها مبارك إليها، وهو ما يمكن أن تفعله أمريكا أيضا وغيرها من الدول. ثم إن "مبارك" متهم في جرائم منفصلة، يمكن تقسيمها حسب الاختصاص بين القضاء المدني والعسكري. زعم أن المجتمع الدولي يرفض محاكمة المدنيين عسكريا يجعلنا لا نحيل المدنيين لمحاكم عسكرية من الأصل ما دمنا نعتقد أن البطلان (الدولي) هو مصير المحاكمة، وإن كنا لا نقيم للموقف الدولي كل هذا الوزن، فلماذا لا نحاكم عناصر نظام "مبارك" عسكريا؟ فضلا عن أن المجتمع الدولي (يتجاوز) عن محاكمة المدنيين عسكريا واستثنائيا في بعض الحالات (كحالة معتقلي جوانتانامو) فإن الزعم بأنه لا يقبل محاكمة المدنيين عسكريا، لا ينفي أنه يقبل المحاكمات العسكرية والاستثنائية للعسكريين، بدليل محاكمات "نورمبرج" لنظام النازي "هتلر". والطريف أننا الآن نحاكم العسكريين مدنيا والمدنيين عسكريا، فهل هناك من يتصور أن مصر شعب من العسكريين وأن نظامه الحاكم السابق كان مدنيا، وبناء علي هذا التصور توزع المحاكمات؟ سمعنا عن نظم حكم عسكرية، لكن "فعلها المصريون" وكتبوا اسمهم بحروف من ذخيرة حية كأول شعب عسكري في التاريخ!