مخطىء من يظن أن النيل مجرد نهر ومورد للمياه للمصريين، بل كان ولايزال منبعا لثقافتهم ومكونا أساسيًا فى الشخصية المصرية ومن يحاول ان يسبر ابعاد وخصوصية تلك الشخصية ويعرف مكنونها ويفهم مواقفها الاجتماعية والسياسية عليه أن ينظر ويدرس ويتتبع مجرى النيل، فهو محرك التاريخ والجغرافيا والثقافة، وربما حان الوقت لإعادة اكتشاف تأثير النيل اللامحدود على مصر حتى نستطيع التعرف على خصوصية هذا البلد وحتى يتسنى لنا أن نبنى عليها مستقبلها بعيدا عن استيراد انظمة وثقافات غريبة عنا. واذا كنا لم نقدر النيل حق قدره ولم نعطه الاحترام الواجب فى حياتنا حين تعاملنا معه باستهانة وعرضنا مجراه للتآكل ومياهه للتلوث فقد عرف الأقدمون قيمته فقدسوه وقدموا له القرابين، وارتبطت دياناتهم وأعيادهم وأفراحهم به وحرص حكامه على وحدة جنوبه مع شماله، تلك الوحدة التى شكلت الرابط الأساسى لمكونات الشعب المصرى وأسهمت بشدة فى تجانس وتضامن فئات الشعب المصرى بطوائفه وحدوده الجغرافية لآلاف السنين، وأسهمت مؤخرا فى بقاء الدولة فى مصر، وإذا كان النيل هو شريان الحياة للمصريين فقد ظل أيضا المحور الذى تدور حوله حياتهم الاقتصادية والاجتماعية وإلى حد كبير السياسية داخليا وخارجيا. ومع اعتماد مصر شبه الكلى على مياه النيل ومن ثم ضرورة التوزيع العادل لتلك المياه فى بلد نشاطه الاساسى يقوم على الزراعة، فقد تميز نظامها السياسى عبر قرون عديدة بتركيزه القوى على الموارد المائية والزراعية ومن ثم تميز النظام الحكومى والسياسى بالمركزية الشديدة والتى تغلغلت فى ثقافتها حتى أصبحت تكبل حركتها ولم تخرج صناعة القرار من العاصمة، رغم كل المحاولات لتفويض السلطات إلى حكام الأقاليم والإدارات المحلية، ورغم ما يقال عن عيوب تلك المركزية ومحاولة تغييرها، إلا أن تاريخها الطويل فى مصر يدعونا الى التوقف عن تلك المحاولات وان نتجه الى محاولة تقليص مشاكلها وتطوير مزاياها فالعيب ليس فى المركزية ولكن العيب فى المغالاة فى تطبيقها وفرنسا على سبيل المثال لم تشكل المركزية فيها عائقا لتقدمها أو لنظامها الديقراطى. وقد كان توسط نهر النيل خريطة مصر سببا فى التوزيع المختل للسكان، حيث تركزت الكثافة السكانية على شريط ضيق حوله فى الجنوب تحده سلسلة من الجبال فى الشرق وصحارى شاسعة فى الغرب ليتسع مع فرعى النيل ويكون الدلتا، وتدريجيا التهم هذا التكدس السكانى المصحوبة بزيادة سكانية مرتفعة وغير منضبطة، جزءًا كبيرا من معدلات النمو الاقتصادى، وتحولت معظم محافظات مصر إلى مناطق طاردة لسكانها الذين لجأوا إلى العاصمة والمناطق الحضرية المحيطة، ولما لم تستطع تلك المناطق استيعاب تلك الهجرات تحول المصريون الى دول الخليج وحتى الهجرات غير الشرعية كان لها نصيب فى استيعاب بعض من تلك الزيادة السكانية، ونسينا أو تناسينا النتائج السلبية لتلك الهجرات، ومن ثم فان فكرة التقوقع فى الوادى، والتى استمرت لقرون عديدة آن لها أن تنتهى قبل أن ينهار البناء الذى أسهم النيل فى تكوينه. ولأن قضية النيل ومنابعه كانت دائما قضية وجود، ومحورًا أساسيًا للأمن القومى لمصر، فقد كان هدف قوى الغرب دائما ضرب وحدتها وتفكيك وخلخلة الارتباط بين جنوب النيل وشماله حتى نجحت فى الخمسينيات فى فك الارتباط بين مصر فى الشمال والسودان فى الجنوب حتى وصلنا إلى بدايات القرن الحالى ليتم فصل جنوب السودان عن شماله والآن يجرى محاولة خنق مصر بالسيطرة على منابع النيل فى أثيوبيا ومحاولة تقليص كمية المياه التى تصلها. ذلكم هو النيل فى مصر، يعلمنا أننا نحتاج إلى دراسات اقتصادية واجتماعية يكون النيل احد محاورها الرئيسية، وإلى نظام سياسى يأخذ فى الاعتبار خصوصية هذا النهر، وتأثيراته العميقة فى وجدان المصريين وفى أمنهم القومى، وربما تتفرغ مجموعة من باحثينا فى فروع العلم المختلفة لتصميم نظم تتوائم مع طبيعة مصر، كما فعلت كثير من الدول التى سبقتنا على طريق التقدم، لأنها قامت بصنع نظمها ولم تلجأ إلى استيردها.