قبل أيام بحث الرئيس السيسى مع مجلس علماء وخبراء مصر الارتقاء بمنظومة القيم والأخلاق فى المجتمع المصرى، واقترح عليه أعضاء المجلس إنشاء لجنة لتنمية الأخلاق والضمير وتعزيز قيم العمل والانتماء، تحت رعاية مؤسسة الرئاسة، ما أعاد لأذهاننا مشاهد المؤتمر الصحفى الحاشد الذى حضره وزيرا التربية والتعليم والأوقاف وممثلون عن الأزهر الشريف والكنيسة المصرية، لتدشين كتاب الأخلاق والمواطنة الذى كان يفترض أن يدرس لطلاب المدارس، لكنه اختفى فى ظروف غامضة، فلا حس ولا خبر عنه، بعد الجهد والوقت اللذين بُذلا ليرى النور. الكتاب كان فكرة وزير التربية والتعليم الأسبق محمود أبوالنصر الذى أعلن بعد توليه الوزارة عقب ثورة 30 يونيو، عن أن الوزارة ستؤلف كتابا للأخلاق لاستعادة دور «التربية» فى مدارسنا، يراجعه علماء من الأزهر والكنيسة، وأن هذا الكتاب يمثل دليل المعلم المرجعى للقيم لأنه يتولى تعليم الطلاب القيم والأخلاق، لأن المعلمين قدوة وقيمة وقامة، وأن وزير الأوقاف وضع مقدمة للكتاب عن الأمور المشتركة بين الأديان السماوية الثلاثة الإسلامية والمسيحية واليهودية، والتى توضح قيمة أن نتحلى بالقيم ومكارم الأخلاق. فى حين أكد د. محمد مختار جمعة وزير الأوقاف وقتها أن قيمة الكتاب تتمثل فى أننا فى حاجة ماسة الى العودة للأخلاق، خاصة أن الخطاب الدينى خرج عن أهدافه فى تقوية الجوانب الإيمانية، وتم توظيفه لأغراض سياسية، وأن القيم والأخلاق أجمعت عليها جميع الشرائع السماوية، وعلى السماحة واليسر والأخلاق الكريمة ورفض العنف والتشدد، وأن الكتاب سوف يتم توزيعه على مراكز الشباب ودور الثقافة. وعندما سألنا عن مصير الكتاب الذى طبع بالفعل قبل أكثر من عام، كانت هناك الكثير من المفاجآت، والأسرار التى تكشف كيف تبدأ الأمنيات فى بلادنا وإلى أين تنتهى؟ ورغم أنها لم تكن المرة الأولى التى تقرر فيها الوزارة العتيقة كتابا للأخلاق على التلاميذ، حتى منذ أن كانت تحمل اسم وزارة المعارف العمومية، إلا أنه لا يعرف أحد لماذا تختفى كتب الأخلاق التى كانت تقرر لسنوات أو على صفوف دراسية بعينها؟ ولماذا اختفى هذا الكتاب قبل أن يراه المعلمون والطلاب؟ الدكتور صلاح صادق صديق - أستاذ المناهج وطرق التدريس بجامعة الأزهر، الذى راجع الكتاب مع الدكتور محمد مهنا أستاذ الشريعة بجامعة الأزهر، يؤكد أن شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب أثنى على فكرة الكتاب وأجازه قبل الطباعة، وراجعه أيضا وزير الأوقاف الدكتور محمد مختار جمعة، وهو من الكتب القليلة التى راجعتها الجهات الثلاث الأزهر والأوقاف والكنيسة المصرية، موضحا أن الأزهر لم تصله نسخة الكتاب المطبوعة، ويؤكد أيضا أهمية تكامل العديد من الوسائل لإكساب النشء القيم والأخلاق من أجل المواطنة الصحيحة، ومنها دور المنزل ووسائل الإعلام بجانب المناخ المدرسى. أما الدكتور كمال مغيث - الأستاذ بالمركز القومى للبحوث التربوية - فيرجع السبب إلى تخوف وزير التربية والتعليم وقتها من ارتفاع أصوات المتشددين داخل الوزارة، والذين اعتبروا أن تدريس منهج للأخلاق سيكون مقدمة لإلغاء تدريس منهج التربية الدينية. مشيرا إلى أن من بين مناهج الأخلاق التى درست لطلبة المدارس المصرية، المنهج الذى وضعه للمرحلة الثانوية الأديب الدكتور «أحمد أمين «عام 1932م بعنوان «الأخلاق». وكان فى الحقبة الملكية والتى اتسمت بمنطقية ارتباط التعليم بالأخلاق. وقدم المنهج مفهوم الأخلاق بالمعنى الإنسانى الفلسفى الذى لا يرتبط بالدين ولا بالثقافة فى ظل مجتمع متعدد الأديان «الاسلامية والمسيحية واليهودية» والثقافات والاتجاهات السياسية، وكان هدف المنهج هو التأكيد على ما يجمع المجتمع رغم اختلافه، فمثلا كان يبحث فى قيم مثل: الحرية، العدل، احترام المرأة وغير ذلك. ويرجح الدكتور محمد المفتى - العميد الأسبق لكلية التربية جامعة عين شمس - أن يكون توقف تدريس مناهج الأخلاق عبر فترات زمنية مختلفة، هو عدم شغل وقت الطالب بمادة لا تحتسب فى مجموع الدرجات، ولا يوافق على تدريس منهج نظرى فقط للأخلاق، لأن أسلوب الوعظ لا يؤثر فيمن يسمعه، لذلك لا بد أن يقترن التدريس بأنشطة مدرسية فى صورة مسرحيات ومواقف وأنماط سلوكية تترجم القيم للطالب. ويقول د. أحمد مجدى حجازى – عميد كلية آداب جامعة القاهرة السابق وأستاذ علم الاجتماع - أنه بالإمكان أن نعيد الأخلاق والقيم إلى مجتمع الطلاب، بعد أن تسببت التغييرات والتحولات التى طرأت على المجتمع، ومنظومة التعليم السلبية فى إرساء قيم الأنانية، وغياب القيم النبيلة، ولكن هذا لا يتأتى إلا بعد أن يقتنع الضمير الجمعى للمدرسين بأهمية القيم والاخلاق، بحيث لا يؤدى المعلم هذا الدور وهو يشعر بأنه مجبر عليه. ويكمل: لا بد من الاهتمام بتدريب المعلمين تربويا، خاصة ممن يدرسون لتلاميذ المرحلة الابتدائية، الذين يكون لهم أكبر الأثر فى تعليم الطلاب، ففى الكثير من الدول المتقدمة، يختار معلمو الابتدائى من أساتذة الجامعات، إيمانا بالدور الكبير للمعلم فى هذه المرحلة، لافتا إلى ضرورة تعليم قيم المواطنة للطلاب مقترنة بالأفعال، مثل تدريب الطلاب على العمل الجماعي، كخدمة للوطن، وتدعيما لروح الانتماء. ويستحسن عالم الاجتماع بجامعة عين شمس د. محمود عودة فكرة تدريس منهج للأخلاق، خاصة أنه يدرس بطريقة غير مباشرة من خلال الحوار والممارسات الأخرى، لكنه يرى أن المشكلة ستكون فى المعلم الذى يحتاج إلى برامج تدريبية تحثه على أن يكون قدوة، ثم نظام للمراقبة، وتقييم ومتابعة مدى تأثر الطلاب بهذا المنهج، ومدى نجاح المدرسين فى توصيله، ويقترح تشكيل لجان محايدة من خارج الوزارة، لتقوم بهذه المراقبة، أو العودة إلى دور المفتشين كما كان فى الماضي، مشيرا إلى أن تدريس منهج للأخلاق لا بد أن يفرض على الوزارة تغيير نظام للتعليم والامتحانات، لنخرج من دائرة المعلم الذى لا يشرح جيدا ويدخل الفصل من أجل الدروس الخصوصية، فى الوقت الذى يطلب منه أن يكون قدوة. وتقول د. نادية جمال الدين - الرئيس السابق للمركز القومى للبحوث التربوية والتنمية - نحن فى حاجة إلى استراتيجية متكاملة القيم لبناء الإنسان المصرى، يتضافر فيها التعليم مع الفنون والشارع والكنيسة والجامع ومراكز الشباب، لنضمن تنشئة سليمة للنشء المصرى، فإعلاء القيم ليست مسئولية المعلم فقط، بل ومسئولية المجتمع بأكمله. وتفضل نادية أن يكون اسم الكتاب هو «سلوك الإنسان المتحضر» لأن السلوك أهم من الأقوال، وهو فرصة ذهبية للمعلم، ليستعيد ثقة الطالب والمجتمع فيه، وعودة صورة المعلم وهيبته كما كانت فى الماضى، وتلفت إلى صعوبة تقييم مردود كتاب الأخلاق على الطلاب، لأن المدرسة ليست هى الجهة المؤثرة الوحيدة فى سلوك وأخلاقيات الطالب، الذى يعيش وسط عالم شبكات التواصل الاجتماعى والإعلام والشارع والأسرة. بحثنا عن مصير الكتاب فى وزارة التربية والتعليم، فقال مصدر مسئول – طلب عدم ذكر اسمه - بأن الوزارة طبعت أعدادًا قليلة من الكتاب، وضعت فى مكتبات مدارس محدودة ولم تصل إلى أيدى المعلمين، ولم يتدربوا عليه، وطبع على نفقة جهات داعمة، وهو كتاب استرشادى للمعلمين وليس للطلاب، وأن المفترض أن يطلع عليه المعلمون فى مكتبات المدارس ليطبقوا ما جاء فيه.