بسؤال جوهري، يختم المؤلف تحليله: هل بشار الأسد هو الرجل المسئول في سوريا؟ هل هو مسئول بنفس الدرجة التي كان يتمتع بها والده؟ وبينما يقطع الإجابة بالإثبات في السؤال الأول، يجيب عن السؤال الثاني ببساطة: "بالطبع لا". ومن رأيه أنه "إذا لم تجر الأحداث السياسية السورية بشكل غير طبيعي فإن فترة رئاسة بشار ستكون غير محددة، لا اعتقد بأن عليه القلق حول خسارة الانتخابات علي المدي القريب". نشر هذا في 2005، ونحن في 2011 هل من نقيض لتصوره! وحدها هي الفطرة المصرية التي سمحت للهتاف الحماسي الأشهر من بين هتافات الثورة "الجيش والشعب إيد واحدة" أن ينازع عظمة التحية العسكرية التقليدية في تبجيلها البروتوكولي لأصحاب الرتب، أضف إلي ذلك خصوصية وضع وتعامل الجيش المصري والقوات المسلحة وكيفية إدارة واحتواء أزمة مصير النظام بعد 25 يناير. التوريث كذلك اكتسب لسنوات جدله الخاص في مصر، فإعدادات التأهيل والتكريس التي تعرض إليها جمال مبارك (الخليفة) كانت إلي حد ما منظمة وممنهجة وطويلة الأمد، أضحت عملية محنكة وراسخة ناسبت سفورها السياسي والإعلامي. أقول خصوصية لأن ما يحدث الآن في سوريا لا يمكن أن يتكرر بالمثل مع دولة عربية أخري "غامضة" كسوريا حملت تناقضاتها في قلب مميزاتها، تماما كما يراها فلاينت ليفريت في كتاب "وراثة سوريا.. اختبار بشار بالنار": دولة اقتصادها ضعيف مجتمع معقد متعددة الإثنيات صغيرة الحجم نسبيا لكنها اللاعب الأساسي "غير الهادئ" في المنطقة. ومن ثم بدا الإرث السياسي الملتبس لبشار الأسد كفيلا بإضفاء مساحات من الاختلاف، علي الأقل أمام نموذج من الخلافة الوراثية للحكم استمد شرعيته الأولي والأوثق والأشد رباطا من الجيش السوري مفروغ المحتوي والوظيفة إلا من القمع، أو "البعثي الصبغة" كما سنعرف لاحقا. الآن هل ما زال ثمة استنكار لولاء الجيش ووقوفه إلي جانب الحاكم في سوريا ضد شعبه بما يسرع من إخماد الفوران الثوري في سوريا؟! هكذا يمكن أن نلتقط من كتاب ليفريت الذي خدم في ظل إدارة بوش الابن كمدير مسئول عن شئون الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي مؤشرات مهمة وخطيرة عن الوضع في سوريا ما إن ظل بشار رئيسها لعشر سنوات قادمة، أو قررت سوريا أخيرا إبرام اتفاقية سلام مع إسرائيل من أجل الجولان؟ يقول الكتاب الصادر في 2005 عن الدار العربية للعلوم ومكتبة مدبولي أن تحكم وسيطرة حافظ الأسد علي وسائل السلطة في بلده تجلت في إضفاء الصفة البعثية علي الجيش، بحيث خلق تكاملاً بين الجيش وحزب البعث الحاكم، بهدف التأكيد علي دعم القوات المسلحة للنظام السياسي البعثي في سوريا بعد عام 1963. وبهذا أوجد الأسد الأب بحسب ليفريت جهاز شرطة قسرياً متطوراً جدا لقمع أي عائق محتمل أو حقيقي يواجه النظام، وعلي النقيض من صدام، لم يكن الأسد "سايكوباتيا" كما يخبرنا المؤلف في استخدامه للقمع والعنف، فقد وظف هذه الإجراءات كوسائل لمقاومة وصد ما يري فيه تهديدا لنظامه. من هذا المنطلق جري تمهيد الطريق لإعداد الرئيس القادم لسوريا بعد حافظ الأسد من داخل العائلة بالطبع، والذي كان مخططا - لحسن ولسوء طالع بشار - أن يئول إلي أخيه الأكبر باسل. تزودنا خلفيات بشار والعملية التي وصل من خلالها إلي الرئاسة بمعلومات هامة جدا لفهمه "كقائد وطني"، هكذا يصر المؤلف علي وصف بشار الأسد الذي أجري مقابلة مطولة معه عام 2004 من أجل إخراج هذا الكتاب، هو يري أن مراجعة التكوين الشخصي والسياسي لبشار (1965) توحي بأنه يميل بشكل حقيقي تجاه الإصلاح في مقاربته للحكم ولكنه يفشل في تطبيقه بشكل ناضج ومتقن تماما لأنه لم يصل إلي السلطة برؤية مدروسة ومتقنة بعناية من أجل التغيير، قد يكون بسبب أنه لم يكن هو الخيار الأول لوالده ليتولي بعده رئاسة سوريا، ومن هنا يقرر المؤلف أن الدوافع الإصلاحية لبشار "واهنة". يقول السوريون الذين يعرفون عائلة آل الأسد عن بشار أنه مهذب وأخرق تعوزه البراعة. بعد عودته إلي دمشق لحضور جنازة أخيه وضع بشار دونما إبطاء في مكان باسل لتحضيره للخلافة، لم يكن مهيأ ليكون خليفة لأبيه، وخلال 6 سنوات منذ وفاة الابن البكر وحتي وفاة الأسد الأب سارت عملية تحضير بشار وإعداده للرئاسة علي ثلاثة مستويات تدريجية كان أخطرها وأكثرها وطأة الآن هو المستوي الأول وهو إيجاد تأييد لبشار داخل الجيش والجهاز الأمني الاستخباراتي السوري. وهو الوجه الحاسم كما يقول المؤلف في عملية التحضير للخلافة الرئاسية، أولا من خلال تطوير اعتمادات بشار العسكرية التي كانت ضئيلة وتقدم التدريب العسكري الملائم لبشار، وليس انتهاء بالظهور في الاحتفالات العسكرية، ثم استغلال كل ما يمكن أن تتيحه القنوات غير الشرعية والفساد السياسي من أجل إعداد الخليفة، إلي درجة إعادة تشكيل القيادات العسكرية وفقا للموقف من الخلافة والتوريث، فكان العزل والتهميش نصيب كل من كان معترضا علي طريقة وسياسة الخلافة الوراثية للحكم، حتي ولو كانوا من أفراد العائلة نفسها، فقد طرد الأسد أخاه رفعت من مكتب نائب الرئيس الثاني لشئون الأمن القومي، وقبل استقالة قائد الحرس الجمهوري وهو ابن شقيقة زوجته، في مقابل تعيين صهر بشار (زوج بشري أخته) في وكالة الاستخبارات العسكرية السورية في أواخر ال90، لأنه "واجهة شبابية" ملائمة لصعود بشار الأسد الذي استلم الحكم عقب الموت المفاجئ للأب وعمره 34 عاما، كل ذلك رغم شكوك بعض القطاعات من داخل الجيش والحرس القديم والمتعلقة بملاءمة بشار لخلافة والده. يتحدث فلاينت ليفريت وهو أيضا أستاذ باحث في مركز سابان لسياسة الشرق الأوسط في معهد بروكينجز عما أسماه "صعوبة المراس في شخصية القادة السوريين" وهو ما كرس صورة سوريا "نظاما شريرا نموذجيا". يحلل المؤلف أنه منذ عام 1970 وحتي عام 2000، أي علي مدي ثلاثين عاما تعامل المسئولون السوريون مع شخصية حافظ الأسد المألوفة وواسعة الإطلاع والمستقرة الهادئة إلي حد ما، لقد كانت الفترة الطويلة نسبيا (ثلاثة عقود من الرئاسة) التي أمضاها الأسد في الحكم وسلطته في سورية ومقاربته للشئون الإقليمية تتميز بالاحتراس والاستراتيجية، ولكن منذ وفاة حافظ الأسد في 2000 وتولي ابنه بشار منصب الرئاسة انخفض الوضوح التحليلي حول أهداف سوريا وأولوياتها وتحدياتها من وجهة نظر مؤلف الكتاب، أو بمعني أصح كانت النتيجة هي الافتقار إلي الإجماع التحليلي بشأن مستقبل سوريا في المنطقة في ظل حكم بشار. رغم التوقع المتفائل بشأن تعاقب الأجيال ونظرة بشار التقدمية علي العالم التي من الممكن أن تكون قد منحته إياها دراسته العليا للطب في بريطانيا، إلا أن الاصلاحات السياسية والاقتصادية لم تأت بالسرعة التي توقعها البعض، فضلا عن وضعية حقوق الإنسان في سوريا وحالات القمع الوحشي التي تبقي جزءاً هاما ولا مفر منه في تركة الأسد. هي إذن تركة وميراث، يحلل المؤلف تركة النظام الذي ابتكره حافظ الأسد ووهبه لابنه خليفته بوصف العامل الأبرز الذي ساهم في تحديد الخيارات السياسية الجوهرية للأسد الابن، بل وتحديد صورته كقائد، والتي يحدها المؤلف بثلاثة مستويات: الأول مستوي الإصلاحي النظري غير العملي، والثاني الابن الوفي وهو مستوي بخلاف الأول يقدم الرئيس السوري كقوة من أجل الاستمرارية والركود، وأخيرا المستوي الثالث المبتدئ وهو المستوي الذي يرجحه المؤلف شخصيا، فضلا عن أن تلك الصورة هي التي رغب بشار نفسه في إظهارها عن نفسه "قائد غر تعوزه الخبرة". أهم إنجاز حققه الأسد الأب كحاكم لسوريا هو تحويل النظام السياسي السوري إلي نموذج حقيقي للاستقرار الفاشستي، نظام رئاسي مركزي وشخصي إلي حد بعيد بدعم من الإعجاب القوي بشخصيته، وهذه (الرئاسة المركزية والشخصية) مثلما كانت إحدي دعامات استقرار النظام التي أرساها حافظ الأسد، مثلت في نفس الوقت تحديا أكبر لبشار. فالنظام الذي ابتدعه حافظ كان من الصعب علي خليفته أن يبرع فيه بسهولة" هكذا يكتب ليفريت بسبب تحديات تشكل اختبارا حتميا للخليفة خصوصا أنه ابن حافظ الأسد منها: عدم النضج المؤسساتي والفشل في إظهار آلية للخلافة لا تتسم بالصفات الشخصية، وتحديات عائلية وأجهزة صنع القرار السياسي المعد للركود، والنقص الواضح لفرص ومبادرات الإصلاح الجدي. تحت عنوان "سلطة مشكوك فيه" يقول ليفريت: "لابد أن يعاني أي خليفة للأسد من فجوة في السلطة حتي لو كانت فجوة الوحشية بالمقارنة مع سلفه"، فقد كان الأمر الحتمي من وجهة نظر المؤلف أن يسيطر الخليفة علي النظام ككل دون النظر إلي الثغرات المتراكمة من الأسد الأب، ولذلك سيكون من الصعب علي بشار أن يرسم نهجا جديدا للسياسة المحلية والخارجية لبلاده، لقد ترك الأسد الأب للأسد الابن تركيبا لسلطة صعبة التدبير وتركة ضخمة من الأعمال غير المنتهية علي الصعيد المحلي. كان هذا هو تحدي بشار الأكبر واختباره الأصعب الذي يدفع شعبه حاليا ثمنه غاليا. بالكتاب وقفات عديدة عن بشار "الأخرق" "الأبله الشرير" كما يسمه الأمريكيون، الذي أجاد اللعب بالسياسة والذي لا يضع نفسه في موقف الخلاف الجوهري مع تركة أبيه ولا يرغب في مواجهة الحرس القديم، ويفضل أن يعمل "حوله" بحسب تعبير المؤلف، من خلال شبكة بديلة من التكنوقراطيين الشباب، لكنه مازال يعاني حالات العجز الكبيرة. اتخذ بشار موقفا ملتبسا حول توجهه تجاه الإصلاح السياسي والاقتصادي، فقد قدم نفسه كشخص يسعي لتحقيق التوازن بين التغيير والاستمرارية، ففي خطاب توليه أعلنها صراحة "الحفاظ علي مقاربة والده وتطويرها في آن واحد"! وينقل لنا المؤلف ما خلفه مثل هذا التصريح علي المستوي المحلي من تحسر وخيبة وفقدان أمل وتثبيط لهمم كثيرين استبشروا بتعاقب الأجيال في الحكم السوري. علي أية حال "الواقع السياسي لبشار أكثر تعقيدا مما قد توحي به كلمة إصلاحي أو رجعي" كما يؤكد ليفريت، وأن "شخصيات النظام البارزة وأفراد عائلاتهم ورجال الأعمال المنتسبين لهم يجنون أرباحا من بقاء الوضع الراهن في حالة ائتلاف واهن معاد للإصلاح".