مؤمن المحمدى من ينفق علي البحث العلمي في مصر؟ صدقني عزيزي القارئ إنها معضلة كبيرة، فجميعنا يعلم أن البحث العلمي في مصر "إيدك منه والأرض"، وأن مصر لا تنفق أكثر من 3% من الموازنة علي هذا البند، وأن ما تنفقه مصر في أمور العلم لا يوازي ما ينفقه مركز بحث متوسط في أوروبا والدول المتقدمة. قديمة، نعرف أن هذه الشكوي قديمة، لكن الجديد هو أن هناك ثورة قامت، وأنه علي الرغم من هذا فإن المشكلة تبدو بدون حل، فمن أين تأتي الدولة بالموارد التي تساعدها علي تنمية ميزانية البحث العلمي. ليس البحث العلمي فقط هو الذي يعاني، فالثقافة هي الأخري في أسفل سافلين، فلا سينما ولا مسرح ولا موسيقي ولا كتاب .. كله يتجه الآن نحو تسليع كل هذا، بعد إخلائه من مضمونه الثقافي حتي يصبح صالحا للبيع، وتبقي المعضلة: من أين تنفق الدولة علي مثل هذه الشئون التي يعرف العالم أجمع أنها لا تدر دخلا، رغم أهميتها؟ حسنا، لن نكتفي هنا بإلقاء المشكلة دون أدني إشارة لحلها كما نفعل نحن معشر الصحفيين عادة، ولنقل إنها الأوقاف. والمصريون يقولون في أمثالهم إن المال السائب يعلم السرقة، حتي إذا كان هذا المال هو "مال الله". فليس هناك مدخل للفساد أكبر من أن تكون هناك أموال لا أحد يعرف بالضبط حجمها ولا مصدرها ولا أوجه إنفاقها، وهو ما ينطبق بالتحديد علي الأوقاف المصرية. والأوقاف، كما تعلم، هي أموال قرر أصحابها وقفها (تخصيصها) للإنفاق علي أوجه الخير، كأن يكون لأحدهم أرض أو مشروع أو عمارة سكنية، فينذر ريعها (ربحها) لله وأعمال الخير. وحتي الستينيات كانت الأوقاف عملا أهليا يشبه منظمات المجتمع المدني NGOs شأنها شأن الهلال الأحمر، وجمعية المواساة. وكان كل صاحب وقف يتولي إدارة وقفه، ثم يتولي أبناؤه من بعده إدارته دون أن يكون لهم حق التصرف فيه بالبيع أو غيره من التعاملات، حتي جاء التأميم، ووضعت الدولة يدها علي كل شيء. وبذلك أصبح للأوقاف وزارة عام 1959 ثم تحولت كل أموال الأوقاف بعدها بثلاث سنوات إلي هيئة الإصلاح الزراعي والمجالس المحلية (لاحظ: المجالس المحلية التي لم تنحل بعد، وهي جذور النظام البائد التي اعترف رموزه بأن الفساد فيها وصل للركب)، قبل أن يتم إنشاء هيئة للأوقاف عام 1971 تتولي "الاستثمار" في أموال الأوقاف باعتبارها "أموالا خاصة". ولم تعد الأوقاف حكرا علي الأوقاف فقد انضمت إليها نذور المساجد وصناديق الأضرحة، لتضع الدولة بذلك يدها علي أموال تصل في بعض التقديرات إلي خمسة مليارات جنيه سنويا، لا تعرف لهذه الأموال صاحبا ولا أولا من آخر. وما يزيد تعقيد الأمور بالنسبة لأموال الأوقاف هو أن أوجه إنفاقها تكون في أبواب "الخير"، وبالطبع فإنه لا يوجد تعريف محدد لهذا الخير، وبذلك يمتد الغموض من الطريق الذي تأتي منه الأوقاف إلي الطريق الذي تذهب إليه، وبين الطريقين الله وحده يعلم ماذا يحدث لأمواله. علي أن الفساد ليس هو الخطر الوحيد الذي يهدد أموال الأوقاف، ولكن العقلية التي تدار بها، بفرض نزاهتها، أخطر. فهذه الأموال التي يقترب حجمها من دخل قناة السويس يمكن "استثمارها" بحق وحقيق في الإنفاق علي البحث العلمي، وتمويل الثقافة. يحتاج الأمر فقط إلي تطوير في العقلية التي تدار بها الأوقاف والبلاد تِمًّا، فأوجه الخير ليست قاصرة علي المساعدات المباشرة للمحتاجين فحسب، بل إن مساعدة المحتاجين قد تكون أكبر في حال تطوير مفهوم الخير ليشمل مراكز البحث والثقافة، وإذا تخيلنا فكرة مثل كفالة اليتيم، مهما صرفت له من المساعدات المباشرة، فإنك لن تصل به إلي المستوي الاقتصادي والاجتماعي الملائم، أما في حالة وجود نشاط ثقافي وبحثي، فإن مساعدته ستكون أكبر، فالثقافة والبحث العلمي ومثل هذه الأمور التي لا تلقي في مصر غير الطناش هي التي تخلق فرص العمل، وتحقق التنمية. ضبط الأوقاف وإعادة توجيهها قد تكون فرصة مناسبة للحاق بقطار التنمية، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أموال الأوقاف نفسها، بدلا من أن نقف مع المطرب الذي يبكي علي الأيام الخوالي، ونغني معه: الأوقاف يا حبيبي.