مستقبل صناعة الثقافة في مصر بعد الثورة إلي أين؟ سؤال الإجابة عليه ليست بسهولة طرحه، خاصة أن الثورة فرضت التغيير علي كافة مؤسسات المجتمع، بجهات أربع رئيسية رسمية مسئولة عن الحركة الثقافية بمصر هي: "الهيئة العامة لقصور الثقافة"، و"قطاع الفنون التشكيلية"، و"المجلس الأعلي للثقافة"، و"الهيئة المصرية العامة للكتاب"، سنجد أنفسنا أمام مؤسسات ذات مشاريع ضخمة، وفلسفات إن اختلفت فإنها تتفق علي أنها تصب جميعا في تشكيل الوعي الثقافي بالوطن، ذلك الوعي الذي ننتظر منه حراكا ثقافيا حقيقيا يقدم لنا مبدعين في كل المجالات، لا "ضوضاء ثقافية" استعراضية استهدفتها قيادات سابقة، لم ننل منها سوي تجريد "الثقافة والفنون" من ثقافتها وفنونها! في ظل تحديات كبيرة تعوق الكيانات الثقافية عن ممارستها لمهامها، كيف يمكن أن تعمل هذه المؤسسات في ظل ثورة قام الشباب بالدور الأكبر فيها، ثورة فجرت ومازالت فنونها وآدابها الخاصة، بل وفتحت المجال أمام عمليات تكوين التجمعات والكيانات الثقافية والفنية، فها هي أكثر من 75 مؤسسة ثقافية مستقلة تشكل كيانا يقيم مهرجانا فنيا وثقافيا ينزل الشارع المصري في محافظتين كل شهر، وها هم المثقفون المستقلون يعقدون اجتماعاتهم تمهيدا لعقد مؤتمرهم المستقل، وها هي التحركات مستمرة لإعادة هيكلة المجلس الأعلي للثقافة، والشباب يتفقون مع وزير الثقافة علي تنظيم قوافل ثقافية تجوب القري والمراكز. ووسط هذا الحراك الثقافي الحقيقي، كيف يمكن أن تعمل الهيئة العامة لقصور الثقافة، التي تضطلع وفق سبب إنشائها منذ عام 1945 بنشر الثقافة في قري ونجوع مصر، هل سيظل خطابها الثقافي كما هو، وكيف يمكنها التغلب علي المشكلات الكبيرة التي تعاني منها؟ رئيس هيئة قصور الثقافة السابق الدكتور أحمد مجاهد قال في حوار صحفي أجري معه عقب توليه رئاسة الهيئة في منتصف عام 2008: أبحث عن استراتيجية بديلة للعمل، وعن ثقافة مختلفة، وعن وجوه جديدة، ولغة مشتركة مع الشباب، "لأننا مش عارفين نوصل لهم" علي حد قوله، وقامت الثورة وانتقل مجاهد لرئاسة الهيئة العامة للكتاب، دون أن يضع الاستراتيجية التي تحدث عنها. وفي كتابها "ماذا جري في الريف المصري؟" الصادر عام 2001، أكدت الدكتورة نادية أبو غازي، أستاذة العلوم السياسية بجامعة القاهرة أن أهداف ومبادئ جهاز الثقافة الجماهيرية لم تختلف كثيرا منذ الخمسينيات، وأن تلك الأهداف فيها عمومية وافتقار إلي الدقة، بما يجعلها أقرب للشعارات، وأشارت لما تعانيه الهيئة من مركزية مفرطة في إدارة الثقافة بالأقاليم، بل وتفتقد لمنهج واضح وأساليب علمية تكفل تحقيق أهدافها. طرحنا السؤال عن: مستقبل الهيئة علي القاص البورسعيدي قاسم مسعد عليوة الذي أعد بحثا بعنوان "الثابت والمتغير في مناهج عمل المؤسسات الثقافية العامة: هيئة قصور الثقافة نموذجا" وألقاه في مؤتمر أدباء مصر عام 2000، فقال: الحديث عن مستقبل هيئة قصور الثقافة يستوجب تحليل أدائها في الماضي والحاضر، فقد خضعت هذه الهيئة لقانون التغيير حتي قبل نشأتها، أي منذ نشوء فكرة تثقيف الجماهير في العام 1945 وتبلورها في العام 1946 في صورة الجامعة الشعبية، وتحول هذه الجامعة إلي مؤسسة الثقافة الشعبية في العام 1948، ثم جامعة للثقافة الحرة في العام 1957 ثم إلي جهاز للثقافة الجماهيرية في العام 1959 وأخيراً تغيرت في العام 1989إلي هيئة عامة ذات طبيعة خاصة وهي الهيئة العامة لقصور الثقافة. وتابع: كل محطة تحول تضمنت تغيرات في الفلسفات والأساليب كما تضمنت إعادة تنظيم وهيكلة، واللافت للانتباه أن آخر تغير في الهيئة تم بناء علي طلب المثقفين بحثا عن الاستقلال عن آلة السلطة والحكم، لكن المطلب جاء علي غير الهوي، فالاسم نفسه انصب علي المباني وتجاهل الجماهير، والتصق بمعاني العجز والتقصير، لا التوعية والتثقيف، ثم تبين أن الاستقلال المنشود كان وهماً لأنه ما من مؤسسة في مصر أهلية أو حكومية، إلا تخضع للإشراف الحكومي. وأضاف: الآن تعيش مصر أجواء الثورة، والتطهير والتطوير والاستقلال أهداف يضعها الشعب الثائر نصب عينيه، ومن الممكن تطهير وتطوير المؤسسة الثقافية الحكومية، وفي المقدمة منها الهيئة العامة لقصور الثقافة لكنني لا أتصور إمكان أن تستقل عن الهيمنة الحكومية، لكن من الممكن أن تنفتح علي الشعب من خلال توسيع مداخلها ومخارجها وتعلية أسقف الحرية والحوار وتبني آليات تعتمد التعددية وتنبذ أساليب التعتيم والتعمية والاحتكام إلي مقتضيات الصالح العام. وأكمل: تعمل الهيئة في ظل تدخلات ثلاثة متمثلة في: الإدارة المحلية، أجهزة الأمن، والتيارات السلفية، ولابد من التخلص التام من هذه التدخلات حتي تؤدي رسالتها، إن وجود الهيئة ضروري لعظم الدور الذي تؤديه ولاحتياج المجتمع إليها، شريطة تحديد فلسفة واضحة لها تكون منتمية إلي جماهير الشعب انتماءً حقيقياً، وأن يشارك الشعب في وضع استراتيجيتها وخططها طويلة ومتوسطة وقصيرة الأجل، وفوق هذا هي تحتاج إلي تطهير وتطوير، مثلما تحتاج إلي إعادة تنظيم وهيكلة، وإلي كسب رضاء العاملين والمتعاملين معها، وألا تعمل بمعزل عن سائر المؤسسات المجتمعية الحكومية والأهلية، وأن تتخلص من اسمها المعزول عن أهدافها، وأن يتوفر لها التمويل اللازم لأنشطتها ولترميم مبانيها، والبحث عن بديل رشيد للبطالة المقنعة التي تعوق أداءها لرسالتها، وأن تنفتح علي المجتمع الأوسع وتتعامل بروح التكامل مع المنظمات الثقافية الأهلية .لو حدث لحققت الهيئة ما تستهدفه الثورة لصالح الشعب بمختلف طبقاته. الروائي والقاص إبراهيم أصلان، قدم استقالته من رئاسة تحرير سلسلة "آفاق عربية"، وحينما يسرد أسباب الاستقالة سيكون لذلك علاقة قوية بما تعانيه الهيئة من مشكلات، يقول أصلان ردا علي سؤال المستقبل: الهيئة مجموعة من الخائفين والمرتعدين ابتداء من رئيس الهيئة فما تحت، ولا يمكن أن يفترض فيهم الواحد أن يستطيعوا تقديم شيء له قيمة علي الإطلاق، وعليه فإن الحديث عن المقترحات لن يكون له قيمة". و عن أسباب استقالته وظروف سلاسل النشر بالهيئة يعود أصلان ليحكي: "منذ مشكلة رواية "وليمة لأعشاب البحر" وسقف النشر في المؤسسات الرسمية انخفض تماما، وأصبح فيه مخاوف مسيطرة علي معظم العاملين في هذا المجال، فكلمة واحدة أو جملة يمكن أن توقف كتاب وتعطله، وأضطر أنا للتفاوض والتناقش، وقد يسلم المؤلف أمره لله أو يرفض نشر كتابه، وهذه المشكلة تأتي عادة من مديري النشر في هيئة قصور الثقافة، وأحيانا تأتي في شكل ملاحظات ومخاوف من المطبعة أو من المصححين". ويتابع: ظللت الشهور الأخيرة فيما يشبه الصراع والتفاوض حول ديوان مختارات الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين، وحدث أن طلب مدير النشر علي عفيفي المختارات ليقرأها وأخذها وأخفاها، كلمت رئيس الهيئة السابق أحمد مجاهد وتدخل وظهرت المختارات، وجاء وزير الثقافة الجديد وعين سعد عبد الرحمن الذي فوجئت به أنه أصبح فجأة الشاعر الكبير، كما وصفته جريدة أخبار الأدب، ووجدته يتحدث بطريقة غير لائقة ويعتبر نفسه أحد صنّاع الثورة وأننا من الفلول التي يجب إعادة النظر فيها، وأفترض فينا أننا من سعينا لنكون مسئولين عن هذه السلاسل متحدثا عن إعادة النظر في السلاسل، رغم أنه كان أحد المساهكين في الدور الرقابي الذي كان يوضع علي النشر، لقد اعتبرت نفسي في حل من رئاسة تحرير هذه السلسلة، أما مبني الهيئة الذي لم أزره مرتين أو ثلاثة علي الأكثر، فلا أعتقد أنه بكآبته تلك ممكن أن يساهم في توصيل العمل الثقافي إلي مستحقيه". الروائي حمدي أبو جليل، مدير تحرير سلسلة "الفلكلور" بالهيئة، قالها صراحة: "أنا غير متفائل بمستقبل الهيئة في الظروف الراهنة"، وأوضح سبب هذا التشاؤم قائلا: الهيئة ربما تكون هي المؤسسة المصرية الوحيدة التي لم تتأثر بالثورة، بالعكس ممكن تكون ارتدت عن أوضاعها المتردية أساسا قبل الثورة، لأنه لا يوجد أي فكر جديد لدي مسئولي الهيئة ولا رغبة في التطوير، الكل يحافظ علي الأوضاع الراهنة ويؤثر الابتعاد عن أي قرار قد يسبب حرجا أو مشكلة مع أحد، فكل شباب المثقفين والفنانين والمسرحيين في الهيئة طالبوا بإلغاء المطبوعات التي يرأسها محرر جريدة "الجمهورية" بالهيئة بل ونظموا وقفات احتجاجية تطالب بذلك ولم يتغير شيء، كأن هناك خوفًا من هؤلاء المحررين". وأكد أبو جليل: "علي الهيئة تحريك ما تملكه من عتاد ثقافي مهول، فهي غنية بعشرات الفرق المسرحية ونوادي الأدب وقاعات عرض السينما والمسرح والفن التشكيلي ولديها 400 مكتبة في كافة أنحاء الجمهورية و17 ألف موظف، كل هذه الإمكانيات بإمكانها أن تقيم ثورة ثقافية شاملة نحن في أمس الحاجة إليها في ظل استفحال التيارات العنصرية المتطرفة، لكن الظاهر الآن أن مسئولي الهيئة مرهوبون من هذه التيارات وقد يخضعون لها بدلاً من مواجهتها، وعليه لابد أن تستضيف شيوخ من الأزهر تجوبون الشوارع ويعلمون الناس أن الشعر والفن التشكيلي غير محرمين". الروائي أحمد أبو خنيجر يتفق مع الرأي ذاته، ويؤمن أن علي الهيئة تغيير آليات تفكيرها وعملها التي كانت سائدة قبل 25 يناير، التي لم تعد صالحة للعمل، ومنها تنظيم الأنشطة في غرف مغلقة أقرب للعمل السري، والإعلان عن تلك الأنشطة والخروج بها إلي الناس، علي أن تقوم الهيئة بإشراك مثقفي الأقاليم الثقافية فيما تقدمه لهم من أنشطة، ويضيف: الهيئة عبارة عن عقول متكلسة تقليدية وهي عقول الموظفين التي لا ترقي لإدارة العمل الثقافي، وعلي الهيئة الخروج من مركزيتها الشديدة ولابد أن تعي أن الأطراف بلغت مرحلة الرشد ولم يعد مقبولا التعامل معها بشكل فوقي"، واقترح أبو خنيجر أن تتحول قصور الثقافة إلي مراكز ثقافية مفتوحة لكل التيارات ومتعاونة مع باقي المؤسسات الثقافية وأن تقدم أنشطتها خارج الجدران وبمقابل مادي رمزي يضمن إقبال الناس وجدية ما يتم تقديمه، وليتم صرف العائد علي تطوير المركز، واستشهد أبو خنيجر بتجربة قام بها مع آخرين العام الماضي، وهي تقديم عرض مسرحي اسمه "يا خلق يا هوه" بالاشتراك مع المحافظة، جابوا به معظم التجمعات السكنية والعمالية، وقال: "لا تتخيلي مدي إقبال الناس عليه".