رجل عجوز يرتدي "جلابية وطاقية بيضاء" يرقص علي أنغام الفرقة التي تعزف موسيقي عسكرية، ينتهي من الرقص ويقول" أنا عمي حارب في 1973 يعني من حقي أدخل قصر عابدين"، رجل آخر غني ل"شعبان عبد الرحيم" ورقص بلدي علي خلفية موسيقي غربية، وأطفال يرسمون ويكتبون ما يشاءون، تساعدهم في ذلك الممثلة مني هلا، وثلاث سيدات ب"جلاليب" سوداء يقفن لبرهة قبل أن تقول إحداهن وهي تهم بالمغادرة "ناس فاضية"، هكذا يبدو لك مشهد المساحة الممتدة أمام قصر عابدين منذ صباح أمس الأول، هناك أقام "ائتلاف الثقافة المستقلة" أول حفلاته الثقافية الشهرية تحت عنوان "الفن ميدان" بالتوازي مع خمس محافظات أخري. خيمة الثورة وكتب دور النشر في البداية تقابلك خيمة خصصها الائتلاف الذي بدأ تنظيم نفسه مؤخرا بالتعاون بين ما يقرب من 75 مؤسسة وجمعية ثقافية وأكثر من 150 مثقفا مستقلا، للأفلام التسجيلية والروائية و"الفيديوهات" التي تم تصويرها أثناء وعقب ثورة " 25 يناير"، علي اليمين اصطفت دور النشر التي بلغ عددها الثماني، تعرض كتبا لا تجد معظمها له علاقة بأحداث الثورة، فتعرض "صفصافة" كتب: "شوق" لخليل أبوشادي، و"زعماء وعشاق" لسيد عبد القادر و"الطريق إلي قصر العروبة" لمحمد علي خير، و"فتوات وأفندية" للدكتور ياسر ثابت، و"حوار الطظ" لسعيد شعيب، وتعرض دار "روافد" كتبا مثل: "شارع بسادة" لسيد الوكيل، و"جرحك يا شهرزاد" لعواطف سيد أحمد، وتعرض دار "كيان": "قصيد في التذلل" للطاهر وطار، و"الجبانات" لرشيد غمري، و"نطلب الرد من الفاتيكان" لمحمد أبو الوفا، و"قيم القادة والسياسيين وأثرها في القرار السياسي" لانتصار السبكي. "مجات" وشموع ومانشيتات صحف إلي جانب دور النشر هذه، التي خلت من دور النشر المعروفة ك"ميريت" و"الشروق" وغيرهما، تجد "ترابيزة" أطول خصصها شباب "مركز التكعيبة" للكتب القديمة تحت شعار "استبدل كتابك"، أي أن تأخذ كتابا وتضع بدلا منه كتابا آخر وهو مشروع بدءوه منذ سنوات، وعندهم ستجد كتبا من قبيل: "البيت الأحمر" لماريو فارجاس يوسا"، و"القومية المصرية" للسيد نصر الدين السيد، و"فتحي غانم الحياة والإبداع" لحسين عيد و"دماء وطين" ليحيي حقي وغيرها، وإذا استكملت مسيرتك ستكتشف أماكن للجمعيات التي تعمل في المشغولات اليدوية، ستجد جمعية "نافذة للفن المعاصر والتنمية" وقد عرضت أعمالها المصنوعة من قش الأرز، صنعها فنانون تشكيليون بأنفسهم، وستجد "جمعية الورشة الفنية الخيرية" وقد عرضت "مجات" مكتوبا عليها مقتطفات من الشعر والأغاني: "مين اللي باله معايا طويل"، وستقابل الفنان التشكيلي شريف القزاز وقد عرض "شموعا" من خشب منحوتاًًً عليها من رباعيات صلاح جاهين، ومكتوبا عليها أشعار"احكم يا شعب وخذ بنفسك مكانك..الأمر صعب صعب والنهي صعب، امسك بيدك ميزانك"، ستجده يعرض "بوسترات" بمانشيتات صحف تتعلق بالثورة، و"فوتو بلوك" تحمل صور شارلي شابلن أو مرسوم كف أحمر كتب عليه" العين صابتني ورب العرش نجاني.. يا ناس يا شر كفاية أر"، أو حتي تجد أفيش فيلم "حسن ونعيمة" أو أغلفة ثلاثية نجيب محفوظ. الأمن يجلس في الجنينة وعلي الجانب الأيمن من الميدان ستجد "طرابيزة" وكراسي خصصت لأفراد الأمن الذين "يحرسون" الفعالية، كانوا يجلسون بجانب دور النشر في البداية، ثم انتقلوا إلي "الجنينة" الجانبية، يقول طه عبد المنعم أحد أعضاء "ائتلاف الثقافة المستقلة": قررنا أن نقيم احتفالية بدون إصدار تراخيص، لكن أصحاب المسرح الكبير خافوا أن يعترض الأمن عليهم، قدمنا طلبا لمكتب وزير الثقافة، ولم نحصل علي التصريح إلا منذ ساعات، لكن المحافظات الأخري التي تشهد نفس الاحتفالية وهي الاسكندرية وأسيوط والمنيا والسويس وبورسعيد، لم تواجه مثل هذه الصعوبة"، أما وزير الثقافة نفسه، الدكتور عماد أبو غازي، الذي تفقد الميدان، فقرر أن يوجه تحية للقوات المسلحة وللمجلس العسكري المتعاون الذي خاطب المحافظين و"وزارة الداخلية" وحصل منهم علي موافقة دائمة علي احتفالات الشارع، ولأنها المرة الأولي منذ زمن طويل التي تقام فيها مثل هذه الاحتفالية في الشارع فإن عماد أبو غازي قرر أنها لن تكون الأخيرة، بل ستكون نهجا تسير عليه باقي مؤسسات الدولة الثقافية، يقول: هذا النشاط الثقافي والفني هو ما سيكسر الحاجز الذي استمر بين الإنسان المصري والثقافة والفنون..مصر تملك 8 شهور من الصيف وتجهيز الأماكن الثقافية محتاج للملايين..الآن نحتاج للأرض الفضاء ولا حاجة لنا بالمباني، وهذا ما حدثت رئيس هيئة قصور الثقافة بشأنه". أنا مازيكاتي عايش حياتي وفي المواجهة يقف المسرح الكبير، عليه عزفت فرقة "فوق السطوح" للجاز وغنت "أنا مازيكاتي عايش حياتي..أنا أحب أعيش بمزاجي..مش فارقة أروح وللا آجي"، وعلي أنغامها رقص الرجل الذي يشبه "شعبان عبد الرحيم" إلي حد بعيد، كما عزفت فرق"ترانزستور" و"كورال الشكاوي" و"فرقة الورشة" و"فرقة جوني" و"فرقة مرايا" و"شوية فن" و"فرقة حكايتنا" و"فرقة سلالم"، وغني علي الحجار وإبراهيم عبد الفتاح وغيرهما، ومن علي هذا المسرح أعلنت بسمة الحسيني، مسئولة مؤسسة "المورد الثقافي" أن جميع الفنانين المشاركين متطوعون وأن تكلفة الاحتفالية قام آخرون بالتبرع بقيمتها، وألقت مضمون البيان الصادر عن "الائتلاف" الذي يطالب بإلغاء مشروق قانون تجريم الاعتصامات، ووقف محاكمة المتظاهرين والمعتصمين أمام المحاكم العسكرية، وتشكيل مجلس رئاسي انتقالي والإسراع في محاكمة المسئولين عن قتل شهداء الثورة واحترام الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لجميع أفراد المجتمع. أما علي يسار الميدان فستقابلك ورش رسم الأطفال، يرسمون علي الورق المقوي وعلي رصيف الشارع نفسه، وستكتشف لوحة لطفل كتب عليها "أمريكا ومصر..الاثنين مع بعض" وآخر رسم "مصر فوق الجميع"، بجانبهما يقف فنان العرائس محمد فوزي مع أصدقائه الذين جاءوا كمستقلين، كل فيهم يمسك "بعروسة ماريونت" ويعلم الأطفال الواقفين كيف يحركونها، ويخبرونهم من أي مادة يتم صنعها، يقول محمد فوزي: هذا الفن كاد أن ينقرض، اليوم نصنع ورشة لتصنيع عرائس الماريونت، وفي الشهور القادمة سنقدم عروضا مسرحية بها، وأتمني أن نكون فيما بيننا جمعية أو ورشة دائمة لتعليمها للصغار، وبجوار مكان العرائس يقف الفنان محمد عبلة، ممسكا بفرشاته أمام قطعة معلقة من "المشمع الشفاف" وعلي الجانب الآخر يقف شباب يقوم عبلة برسم وجوههم، وبجانبه علقت لوحات ورسوم كاريكاتورية: بدلة ورأس عبارة عن كف يد علي كل إصبع كلمة كالأمن الوطني ومجلس الوزراء والإعلام والداخلية والجيش، أو قد تجد شعرا ك"شعور سخيف إنك تحس بأن وطنك شيء ضعيف، صوتك ضعيف..رأيك ضعيف..إنك تبيع قلبك وجسمك، وإنك تبيع قلمك واسمك ميجيبوش حق الرغيف. السعي وراء أهل عابدين أما ما بين اليمين واليسار والمواجهة فستجد بشرا مختلفين: أجانب ومصريين، بجلاليب وبدل، لكن تواجد الناس البسيطة، أو أهل المنطقة كان هو الأضعف، ربما هي الدعاية، يقول ياسر علام عضو الائتلاف والمدرس بأكاديمية الفنون: كنا معنيين في برنامجنا ألا نستخدم الأساليب التقليدية في الدعاية، نزلنا إلي الشوارع والمقاهي والبيوت المحيطة بعابدين، قلنا للناس إننا ضيوفهم وأننا جئنا لنحتفل معا بالثورة، كنا ندرك أن الثورة كسرت حاجز الخوف لدي الناس، وخطوتنا التالية أن نعلمهم الحميمية والمشاركة، وأؤكد كي أن الناس العادية ستزيد علي آخر اليوم"، ويقول طه عبد المنعم، عضو الائتلاف: كان عندنا مشكلة تأخر طبع ورق الدعاية للاحتفالية، اعتمدنا علي دعوات الفيس بوك والانترنت، نعم قصرنا في الدعاية وكان يمكن أن نستغل فرصة تواجد المتظاهرين في ميدان التحرير لعمل دعاية أكبر"، أما الروائي محمود الورداني الذي لم يعلم بالاحتفالية سوي بالصدفة رغم أن ابنه مشارك فيها فقال: كان نفسي اعرف عنها من الصحف والمجلات، وعلي كل أقول إن أحد أهم تجليات الدفاع عن الثورة أنها تتكرر في مجالات أخري ومحافظات مختلفة، هذا ما يجب أن ندافع عنه، وهذه أول مرة تتحقق فكرة الاستقلال في الثقافة وأن يمارسها الناس ويديرونها بأنفسهم دون رقابة عليهم".