يفضل الكاتب محمد حسنين هيكل أن يقول كلاماً بطريقة «المونولوج».. صوت واحد لا يريد نقاشاً.. في برنامجه علي قناة الجزيرة واسمه «مع هيكل» يجلس وحيداً مخاطباً المشاهد دون حوار.. وحين يجري حوارات في مصر فإنه يختار نفس الأسلوب حتي لو كان أمامه أحدهم يجري الحوار.. هكذا تكون أحاديث في الصحف حيث ينصت إليه المحاورون ويكتب غالباً هو الأسئلة.. وهكذا كان محمود سعد في حوار «مصر النهارده» متلقياً باندهاش وبلا نقاش.. وهكذا كان عمرو واكد في «حوار أو. تي. في» يستقبل وهو فاغر فيه.. لا يعرف كيف يرد.. ومعه عذره.. تلك ليست مهنته. لو كان الحوار مهنة واكد، ولو كان هيكل يقبل النقاش أصلاً، لكان علي الفنان «المذيع المؤقت» أن يجادله في رأيه بشأن عمرو موسي والبرادعي، حين قال الكاتب عنهما: «عجوزان ليست لديهما خبرة السياسة يريدان أن يختتما حياتهما بعد المسار الوظيفي علي طريقة كورت فالدهايم في النمسا».. مثلاً كان علي عمرو واكد أن يسأله: ما السياسة التي تقصدها؟ وكيف تعتبر وزيراً سابقاً ومدير وكالة دولية ليس سياسياً؟ ومن هو السياسي إذن؟ وهل هيكل نفسه سياسي بنفس المنطق؟ وأين كانت السياسة في الستينيات؟ وما مواصفات المرشح الذي يرجوه للرئاسة؟ وألا تنطبق المواصفات التي لا يجدها في عمرو موسي والبرادعي بالتالي علي آخرين كانوا موجودين في الساحة قبل 25 يناير؟! إلخ. هذه الجملة التي صاغها هيكل بطريقة فريدة ملغومة كما اعتاد واحترف هي عرض إغواء متجدد أتقنه محمد حسنين هيكل طوال حياته الصحفية الممتدة، مبني علي قاعدة أنه يريد تكرار ما كان بينه وبين الرئيس عبدالناصر.. وقد قدم هيكل عرض إغواء لمبارك حين أرسل له الكثير سراً وعلناً.. وحين اقترح عليه تكوين مجلس المستشارين، وقدم إغواء آخر لجمال مبارك حين قال في حوار صحفي منشور: إن الطريقة التي يقدم بها للمجتمع ليست هي الطريقة التي يمكن أن تحقق إقناعاً به.. وإذا قلبت هذه العبارة فإنها تعني أنه أي هيكل كانت لديه الطريقة التي يمكن أن يحقق بها الرواج لجمال مبارك.. وأن علي الأخير فقط أن يطلب ذلك منه.. لتبدأ المسيرة بمشاركة الكاتب العتيد. في حالة وصف المرشحين المفترضين موسي والبرادعي من كهل «نحترم سن الجميع»، في عمر هيكل، بأنهما عجوزان، فإن هذا يعني أنه يضرب كرة بلياردو ارتطمت وفق ما يريد بكل من الكرتين الظاهرتين.. وكرات أخري خفية.. ربما تكون فيها واحدة سوداء.. بينها وبين هيكل تواصل.. أو هي في طريقها إلي ذلك.. أي أن هيكل يريد من المرشحين أن يصبحوا أسري نصائحه.. لعله يتمكن من أن يتواصل مع رئيس مصري جديد.. تلك هي العقدة التي تسبب فيها أنور السادات حين أزاحه من موقعه عام 1974 ورسخها مبارك حين تعلم الدرس ولم يقرب هيكل علي الإطلاق. لقد عبر هيكل الذي كان يكتب للملك فاروق كما هو مسجل في صفحات «روزاليوسف» «في يوم ميلادك يا مولاي» خمسة عصور.. وهو ما يحسب له صحفياً وسياسياً، دون أن يحجب عنه التقييم الواجب والانتقاد الموضوعي.. حتي لو ظن نفسه ذاتاً لا يجب أن تمس. وخلال العقود الست ونصف العقد الماضية كان دائماً إغواؤه يقود إلي لعنة، ففي حالة الرئيس عبدالناصر صار الزعيم الراحل وفق روايات هيكل تابعاً لمشوراته، كما لو أن الكاتب كان هو الذي يحكم ويدير البلد من خلف ستار الرئيس.. ومن ثم يسائله كثيرون عن مسئوليته عن هزيمة 1967 التي قال قبلها: إن مصر سوف تغزو تل أبيب. وفي حالة الرئيس التالي قدم هيكل مراكز القوي الناصرية للسادات علي طبق من فضة كي يتحول إلي شريك معلن في الحكم، فلما أخرجه السادات من الصورة عملياً كان أن حاول هيكل تدمير الروح المعنوية للجيش، وفي صدارة ذلك مقاله الأشهر والأسوأ «تحية إلي الرجال» قبل حرب 1973، ولما أبعده السادات إجرائياً ونهائياً.. تحول إلي خصم.. وألف كتاباً ضده.. عاير فيه الرئيس الراحل بلون بشرة أمه الأسمر. وفي حالة الرئيس مبارك، الذي خبر تجربة سلفه، كان أن امتنع عن تقريبه، فتحول هيكل إلي أشرس خصومه، خصوصاً في السنوات الخمس الأخيرة، وتحالف مع قطر ضده، وحتي وهو كان يقدم عروض التقارب بين السطور فإنه كان يواصل الهجوم المكثف كي يدفع مبارك ثمن أنه أبقي هيكل بعيداً عن قصر الحكم.. علماً بأن عائلة هيكل «خصوصاً ولديه» حققا ثورة طائلة في عصر مبارك ومن خلال مؤسسات وسياسات حكمه. الآن يلوح في الأفق رئيس جديد، وهيكل يريد أن يعود إلي قصر حكم مصر من أي باب، يريد أن يكرر هيكل لعبته مع الرئيس القادم، فإما قبل أن يكون رهينة له، أثناء فترة الترشح تمهيداً لما بعد الوصول للحكم، وإما دفع ثمن الابتزاز بأن يكون هيكل مع مرشح آخر ضده.. والعرض الآن مطروح سلبياً علي كل من البرادعي وموسي.. ومطروح إيجابياً علي مرشح ثالث لم يظهر بعد.. الله أعلم بمن هو. هيكل هنا يحاول أن يراهن علي «السمك في الماء»، بالتأكيد شباكه ممتدة فعلاً نحو قرش في الأعماق.. دون أن يبعد ناظريه عن الحيتان الطافية.. لكن هل يستوعب هذا القرش أن اليد الممدودة إليه ليست سوي خيوط شبكة؟ الأمر يتوقف علي طريقة تفسير المرشح غير المعلن بعد لإغواء هيكل.. هل هو عرض حب.. أم أنه طعم اصطياد؟ ما يجهله، أو للدقة يتجاهله، هيكل نفسه، هو أنه ليس لديه فسحة كافية من الزمن كي يتمكن من أن يحبك مناورته.. لا أقصد بذلك سنوات العمر.. منح الله للجميع وافر الصحة.. وإنما علي إيقاع العصر.. واختلاف الأساليب.. وقدرة الآخرين علي أن يناوروه. الموقع الالكتروني : www.abkamal.net البريد الالكتروني : [email protected]