هل تنتصر ليبيا علي «الجماهيرية» التي لم تكن يوما سوي شعار فضفاض خال من أي مضمون لتبرير سيطرة رجل واحد وحيد اسمه معمر القذافي علي السلطة والثورة ومقدرات البلد بالتفاصيل المملة؟. سيظل هناك، في طرابلس والمناطق القريبة منها، من يدافع عن العقيد معمر القذافي ونظامه لفترة طويلة في غياب مفاجأة كبيرة تتمثل في دخول قوة خارجية علي خط ضبط الأوضاع الداخلية فيما كان يسمي «الجماهيرية»، قد يتمكن القذافي من الذهاب إلي قبيلته في سبها أو سرت والبقاء في حمايتها حتي أيامه الأخيرة، تماما كما فعل قبله الرئيس الصومالي محمد سياد بري في العام 1991 حين فر من مقديشو ولجأ إلي قبيلته، الفارق بين ليبيا والصومال أن احتمال تدخل المجتمع الدولي في ليبيا وارد إلي حد ما، علي طريقة العراق، نظرا إلي أنها غنية بالنفط والغاز من جهة وأن استقرارها جزء من الاستقرار الأوروبي من جهة أخري. لا يمكن، إلي اشعار آخر، الاستغناء بسهولة عن امدادات النفط الليبي ذي الجودة العالية الذي يعتبر مسألة حيوية، خصوصا بالنسبة إلي أوروبا، أما الصومال، فلا فائدة تذكر منها، باستثناء أن لديها موقعا استراتيجيا في منطقة مطلة علي البحر الأحمر. ستستعيد الصومال أهميتها في مرحلة ما. في الصومال، يستطيع العالم الانتظار طويلا، في حين من الصعب عليه عدم اتخاذ موقف سريع وحاسم عندما يتعلق الأمر بليبيا، وذلك في ضوء موقعها الجغرافي المميز وثرواتها الطبيعية وقربها من أوروبا. أيا تكن نتيجة الأحداث الأخيرة في ليبيا، دخل البلد مرحلة جديدة، انتهي نظام استمر اثنين وأربعين عاما قام علي شخص واحد أمسك بكل مفاصل الدولة. يرفض القذافي أخذ العلم بذلك، بالنسبة إليه، لم يتغير شيء، لا يزال العقيد يعتبر نفسه ذلك الضابط الذي استولي علي السلطة في العام 1969 مع مجموعة من رفاقه الذين تخلص منهم الواحد تلو الآخر معتمدا علي دهائه وقدرته علي استخدام التناقضات.. بما في ذلك تلك التي كانت بين أبنائه! السؤال الكبير الآن هل في الامكان إعادة بناء البلد بعد سنوات طويلة كان هم القذافي خلالها محصورا في تدمير مؤسسات الدولة بدءا بالجيش وصولا إلي وزارة الداخلية مرورا بكل ما له علاقة بالاقتصاد والتعليم والتنمية والانفتاح علي العالم. نجح القذافي إلي حد كبير في اقامة نظام يسهل عليه التحكم به من خلال المال والأجهزة الأمنية المرتبطة به مباشرة، كانت قوة القذافي مستمدة من تحكمه بالصندوق الذي فيه عائدات ليبيا من النفط والغاز، كان يغدق منه علي من يشاء ويحرم من يشاء! لماذا انتهي القذافي بهذه الطريقة؟ لا يمكن في أي شكل الاستخفاف بذكاء الرجل وقدرته علي المناورة داخليا وتأليب القبائل الليبية علي بعضها البعض. ربما كان القذافي أفضل من يعرف ليبيا والليبيين. لكن مشكلته الأساسية تكمن في أنه لم يعرف يوما أن هناك نظاما دوليا ليس في استطاعة دولة لا تمتلك سوي ثروة نفطية التغلب عليه. لعب القذافي في فلسطين ولعب في لبنان وفي دول أفريقية عدة، خصوصا في تشاد، ووصل حتي إلي إيرلندا والفلبين، اختار التعاطي مع أسوأ الفلسطينيين واللبنانيين، أقام تحالفا مع إيران ومدها بالصواريخ خلال حربها مع العراق، كانت صواريخ القذافي تسقط علي بغداد، لم يوجد بين العرب من يسأل القذافي لماذا يفعل ذلك؟ هل كان كافيا أن يكون هناك عداء بينه وبين غبي اسمه صدام حسين كي تسقط صواريخ ليبية علي بغداد؟ دخل القذافي عالم الإعلام باكرا، انشا صحفا ومجلات ودور نشر ومراكز دراسات في بيروت وباريس ومدن أخري صرف عليها الملايين لكنه لم يحسن استخدامها، أنه يشكو اليوم من استخدام الإعلام ضده يالها من مفارقة كان يفترض به أن يسأل نفسه لماذا فشل إعلامه ومن المسئول عن ذلك؟ لماذا نجحت قطر وفشلت ليبيا، علما أن البلدين قادران علي صرف المبالغ نفسها تقريبا علي المؤسسات الإعلامية المطلوب منها تأدية دور ما؟ الآن، بعد فوات الآوان يجد القذافي نفسه من دون إعلام وإعلاميين ومن دون فضائية تدافع عنه، ربما تكمن مشكلة الرجل في أنه لم يبن مؤسسة ناجحة واحدة علي الرغم من كل الأموال التي كانت في تصرفه. لم تكن لدي القذافي يوما سياسة متماسكة في أي حقل من الحقول باستثناء الامساك بالسلطة والمحافظة علي النظام الذي اقامه. فشل في الإعلام فشلا ذريعًا، كذلك في السياسة حيث كان عليه تغطية اخطائه الضخمة عن طريق دفع مليارات الدولارات، أما رؤيته للاقتصاد فكانت شبه معدومة، اعتقد دائما أن القتل يمكن أن يحل مشاكله مع معارضيه وأن ضرب المؤسسات الاقتصادية وتدمير النسيج الاجتماعي للمجتمع سيضعان جميع الليبيين تحت رحمته، لم يحل القتل أي مشكلة، لا قتل المعارضين في الداخل والخارج ولا التخلص من شخصيات في حجم الامام موسي الصدر، لم تنفع القذافي الاستعانة بتنظيم إرهابي تابع ل«أبونضال»، ومن علي شاكلته من زعماء للتنظيمات الفلسطينية المارقة المقيمة في دمشق والتي لا هم لها سوي الاساءة إلي لبنان واللبنانيين.. وقضية فلسطين! اهتم القذافي بكل شيء باستثناء رفاه الليبيين وتحسين أوضاعهم. ربط استمرار نظامه بابقاء المواطن الليبي فقيرا ومتخلفا وتحت رحمته. تحدث عن الاصلاحات متاخرا. راهن حتي علي التنافس بين أبنائه علي خلافته فأخرجهم جميعا من لعبة السياسة. حول معظم هؤلاء إلي قادة لميليشيات مسلحة تدافع عن مكاسب ومصالح مرتبطة بالنظام، لم يفهم حتي معني تخلصه من العقوبات الدولية وأبعاد ذلك، لا بعد تسوية قضية لوكربي، التي سيتبين يوما أنه لم يكن مسئولا عنها وحده، ولا بعد تخليه عن أسلحة الدمار الشامل، لم يفهم أن الاصلاحات الجذرية كانت وحدها كفيلة بانقاذ نظامه وأنه كان عليه السير فيها إلي النهاية، خصوصا بعد استسلامه للأمريكيين، لا يمكن أن تستسلم للأمريكيين وأن تنقلب عليهم في اليوم التالي بحجة أن كل ما يريدونه هو نفط ليبيا. قد يبقي القذافي زعيما علي إحدي المناطق الليبية كما قد تلاحقه العدالة الدولية. كل ما يمكن قوله أن هناك ليبيا جديدة انتصرت علي «الجماهيرية» بكل ما تمثله من تخلف، عادت ليبيا إلي ليبيا بفضل شعبها المتمسك بثقافة الحياة ولكن من دون أن يعني ذلك ولا مخاطر علي وحدة البلد ومستقبله، هل تبقي موحدة؟ هل هناك مجال لاقامة نظام ديمقراطي حقيقي، أم ينتقم القذافي علي طريقته من الشعب الذي ثار عليه علي طريقة انتقام سياد بري من الصوماليين أو انتقام صدام حسين من العراقيين. علينا أن نتذكر دائما أنه منذ العام 1991، لم تعد هناك دولة في الصومال.. وأن العراق لم تقم له قيامة بعد علي رغم مرور ثماني سنوات علي إلقاء نظام صدام في مزبلة التاريخ!