أؤكد علي ما كتبته بالأمس من أن الغضب الجماهيري الحادث متنوع الأسباب والخلفيات.. وليس متحدا في مطالبه.. وإن تغيرت مظاهره فذلك لأن توجيه المتظاهرين نحو توحيد المطالب بدأ في اليوم الثاني أي الأربعاء ولم تتضح ملامحه بعد.. حتي كتابة هذه السطور.. فالناس غاضبة ولكل واحد أسبابه ومن حق كل مواطن أن يمنح مكانا للغضب.. أي أن تُترك له مساحة كافية يعبر فيها عما يغضبه طالما أن حرية تعبيره تكفل أيضا حريات الآخرين وتحترم ممتلكاتهم.. كنت بالأمس قد استعرضت ما أظنه أسباب الغضب ولكن لم يتسع المجال لتحليل مظاهر هذا الغضب وآثاره المتوقعة.. مظاهر الغضب تتضح في المظاهرات كبيرة العدد والهتافات التي لا تعبر عن كل ما يتسبب في الغضب إنما تضع في المقدمة أسبابا مشتركة بين الكثيرين مثل: البطالة، وغلاء الأسعار، والمطالبة بتمثيل برلماني حقيقي لأطياف متنوعة من نواب الشعب، وإلقاء اللوم علي الحكومة بخصوص تردي الأحوال الاقتصادية وهو ما يمس المواطن بشكل مباشر.. تلك المظاهر الغاضبة تبدو في مجملها متشابهة ولكن بعضا منها خرج عن الهدوء والنظام اللذين بدأ بهما يوم الثلاثاء.. وتنوعت المظاهر السلبية بين التعدي علي ممتلكات عامة وخاصة من ناحية، والتشابك بين المتظاهرين وقوات الأمن من ناحية أخري.. وهو دليل آخر علي عدم التنظيم المسبق لتلك المظاهرات وانقياد جمهورها للمتغيرات التي قد تفرضها جماعة صغيرة أو عناصر قليلة العدد ولكنها موجهة وآتية بسبق إصرار ونظام.. لماذا اشتعلت المظاهرات هذه المرة؟ هل بسبب كبت الغضب لفترة طويلة كما يقول البعض؟ ولماذا كبت الناس غضبهم بالرغم من أن السنوات الماضية شهدت العديد من المظاهرات والاعتصامات والمسيرات؟ إذن هل هي الروح الآتية مع هبوب الرياح الغربية العكسية المتوسطية وحلول تلك الروح التونسية علي أراضي الجوار كما يري آخرون؟ هل كانت الثورات مُعدية في تاريخ الأمم؟ ربما.. ولكن لماذا انتشرت العدوي عندنا؟ لأن مناخنا سمح بانتشارها.. لا لانعدام الحريات، علي العكس، فنحن نتكلم وننتهر ونشجب ونصرخ وإعلامنا ممتلئ بالحناجر المفتوحة.. المشكلة الحقيقية هي أن الناس تعبر عن مطالبها بحرية وتصرخ باحتياجاتها ليل نهار ولكن الاستجابة ضعيفة جدا وأحيانا منعدمة.. التونسيون غضبوا لأنهم لم ينالوا الفرصة للتعبير عن أنفسهم وعن غضبهم.. ولكن غضبنا نحن لم يكن مكبوتا بقدر ما هو مهمل.. لا يهتم المسئولون بكل تلك الصرخات.. تراكم هذا التجاهل والإهمال واللامبالاة نحو الغضب المتنامي لدي المواطنين هو الدافع الأصلي للخروج.. للفت النظر.. المشكلة الثانية هي جهل الإعلام الخاص والوطني بالطرق الصحيحة لعرض القضايا العالمية والمحلية.. وكأن أي ثورة حقيقية أو أحداث شغب، استشهاد أو انتحار، حادثة قتل أو تعذيب، أيا ما كان الخبر هو مجرد عرس إعلامي جديد لملء فراغات التوك شو اللامتناهية، ومساحات الصحف التي لا حصر لها.. لا توجد علامات خطر، ولا لوحات إرشادية، ولا معان سامية كأمن الوطن والمواطنين، ولا مسئولية ضميرية تحد من تلك الأعراس الإعلامية التي تشعل الغضب الجماهيري دون أن تشارك في حلول حاسمة.. أعطوا مكانا للغضب وتعاملوا معه بإنصاف.. لا لتخمدوه بل لتعالجوا أسبابه..