كما سبق أن قلت إن الخصومة في المناطق الريفية والشعبية خاصة في الصعيد يغلب عليها طابع الوضوح والإعلان والصراحة والصرامة والجهورية، علي خلاف المدن التي تكون الخصومة فيها وخاصة الدينية غالب عليها طابع الرمزية والمظهرية والنفاق والتملق والتلون بأكثر من وجه، وربما يرجع بعض الناس ذلك إلي انفتاح أهل المدن وتحضرهم، أو إرجاعه إلي انتشار ثقافة الليبرالية بصورة كبيرة بين أهل المدن عنها بين أهل الريف، وربما يرجع بعض الناس ذلك إلي تسامح أهل المدن وانتشار التعليم وتمتعهم بقيم التعايش وقبول الآخر، إلا أنني أري أن الواقع الحقيقي بين أهل المدن كالقاهرة وغيرها من المدن الكبري هو واقع لا يقل طائفية عن طائفية الريف والصعيد، إلا أن الخلاف يكمن فقط في الطريقة أو في السلوك أو في الشكل أو في اللون الذي تظهر فيه الطائفية الدينية وتمارس به. فالطائفية كفكرة ومعتقد بين أهل المدن هي الطائفية كفرة ومعتقد بين أهل الريف والصعيد، إلا أن قلة وندرة الأحداث الطائفية العنيفة والممارسات العملية العدائية في المدن لا تعبر حقيقة عن عدم وجود طائفية دينية بين أهل المدن، ولا عن ضعفها وقلتها، ولا يعني كذلك أن أهل المدن لديهم من قيم التسامح وأخلاق التعايش ما يمنع وجود طائفية دينية بين بعضهم البعض، فأهل المدن يغلب عليهم ليس التسامح أو التعايش، وإنما يغلب عليهم أسلوب وطريقة حياة المدينة بصخبها وزحامها وعاداتها وتقاليدها وتطور مرافقها بصورة لا تسمح لهم ولا تمكنهم من ممارسة الطائفية الدينية بسلوكياتها العنيفة ولا بتصرفاتها العدوانية، فيلجأ أهل المدينة إلي التلون والنفاق والادعاء والكذب لإخفاء طائفيتهم الدينية، إلا أنها تظهر عليهم وتبدو بكل وضوح في الأماكن المغلقة ووراء الجدران وفي زلات اللسان وفي المجالس الخاصة وفي التعاطف والرضا والتقبل والتفهم لما يحدث في الجانب الآخر (الريف والصعيد والمناطق الشعبية) وهو الجانب الواضح الصريح والعنيف في ممارسة الطائفية الدينية. فهناك كثير من المواقف التي أنا شخصيا شاهد عليها وتثبت بما لا يدعي مجالا للشك وجود طائفية دينية في أهل المدن بصورة لا تقل عنها في الصعيد والريف، إلا أنها ليست بالوضوح والعلانية والصراحة والصرامة والجهرية التي في الريف والصعيد، ولا يمكن الادعاء أن جميع أهل المدن لا تنتشر بينهم الطائفية بشكلها العنيف والعدواني لانتشار قيم التسامح وقبول الآخر بينهم، إذ هناك فارق كبير بين تقبل الآخر كأخلاق إنسانية نبيلة راقية، وكقيم ثابتة راسخة يتحتم علي الفرد منا أن يؤمن ويتخلق بها، وبين قيم مائعة ملتبسة باهتة كالمواءمة والمداهنة والنفاق واللعب بالبيضة والحجر وهشاشة المبدأ وكثرة التلون وسرعة التقلب والدجل والمتاجرة والتسلق والقفز علي الحبال والكذب والغش وعدم الوضوح وقلة الصراحة التي تتفشي بين كثير أو معظم أهل المدن. فبين أهل المدن تنتشر - خاصة بين أوساط النخب المثقفة من المسلمين والمسيحيين - ظاهرة نفاقية عجيبة. فاقت كل الظواهر. هذه الظاهرة كثيرا ما تجعل المرء يمتلئ حيرة في بعض الأوقات، وإحباطا وعدم ثقة في أوقات أخري، هذه الظاهرة العجيبة الغريبة التي تنتشر بين بعض غير قليل من النخب المثقفة المسلمة والمسيحية علي حد سواء، هي عبارة عن ظاهرة أعتبرها أنا من النفاق النخبوي المثقف، فبعض من الكتاب والمثقفين دائما ما تأتي أحاديثهم أو مقالاتهم في صورة مذكرة دفاع مستميت من الطرف المسلم عن الطرف المسيحي، ومن الطرف المسيحي عن الطرف المسلم، لدرجة تشعر القارئ بأن الكاتب المسلم قد أصبح مسيحيا، والكاتب المسيحي قد أصبح مسلما، وذلك لا بأس به علي الإطلاق وخصوصا لو كان ما بداخل القلوب يحمل نفس الود والمشاعر الأخوية التي توشك علي الصراخ من بين سطور كتاباتهم. إلا أنني أعتقد بل أجزم أن بعض هذه الكتابات أو جزء كبير منها وليس جميعها، حتي لا أظلم أصحاب النوايا المخلصة والطيبة والصادقة فعلا، لا تقل شبها عن العناق بين شيوخ الأزهر والقساوسة، وعن الصلاة غير الخالصة لوجه الله التي يقيمها بعض المسلمين في الكنيسة كنوع من المجاملة وإظهار التودد، وعن موائد الإفطار الرمضانية غير الخالصة لوجه الله التي تقيمها بعض الكنائس للمجاملة وإظهار التودد. وعن دعوة الإخوان المسلمين للمسيحيين للانضمام لعضوية حزبهم المزمع تأسيسه. وأنا أقول هذا الكلام بناء علي وقائع حقيقية عايشتها أنا بنفسي منذ منتصف التسعينيات من خلال علاقاتي المتعددة مع كثير من المثقفين المسلمين والمسيحيين في القاهرة والإسكندرية، وبناء علي ما عايشته وشاهدنه بنفسي من وقائع ومواقف طائفية كثيرة ومتعددة من أهل المدن، وسوف أسرد في المقال القادم بعضا من الوقائع والنماذج علي مدي تعمق الطائفية الدينية بين أهل المدن ولكن بلونها المديني. والبقية تأتي. باحث إسلامي مقيم بأسيوط