لا شك أن بو عزيزي كانت لديه فعلا قضية.. ولكن مشهد حرق شخص لنفسه للتعبير عن قضية ما، هو مشهد جديد علي الثقافة العربية.. كما أن مسلسل حرق الناس لأجسادها الذي امتد إلي الجزائر ثم مؤخرا إلي مصر ليس إلا تقليدا ومحاكاة لبوعزيزي.. ما هي الحكاية؟ ومن أين بدأت؟ ولم انتهج آخرون منهج بو عزيزي؟ وهل تأتي المقدمات المتشابهة بنتائج متماثلة؟ ربما لم يكن بو عزيزي يعلم أن تقليد حرق الأجساد ليس إلا طقسا بوذيا تعود جذوره علي الأرجح إلي طقوس تقديم البخور كقربان وحرقه علي أجساد الأتباع المخلصين للبوذية والهندوسية.. وربما علم بو عزيزي أو لم يعلم أن الولاياتالمتحدة في الستينيات قد شهدت حادثا مماثلا لما قام هو به عندما قام أحد الأمريكيين من أصل آسيوي بحرق نفسه أمام البنتاجون لتسجيل اعتراضه علي حرب فيتنام.. ولكن حتي إذا لم يكن بو عزيزي علي علم بهذا التاريخ وتلك الحوادث السابقة، وحتي لو لم يكن يفطن إلي أن إنهاءه لحياته بتلك الطريقة سوف يشعل تلك الثورة، لا شك أنه قصد أن يعلن يأسه للجميع ويجعل من نهاية حياته قضية إنسانية قبل أن تكون مجتمعية ثم تتحول إلي سياسية ثم تخرج عن حدود تونس لتتجه يمينا ويسارا.. ومن المعروف أن حرق الإنسان لجسده طالما اعتبر في الثقافة العربية انتحارا وهي كلمة صعبة لدلالاتها الثقافية المتوارثة ومعناها السلبي إلا أن الملاحظ في الميديا العربية بوجه عام هو استخدام هذه الكلمة في وصف ما قام به بو عزيزي فقط في بداية اضطرابات تونس.. ثم اختفائها تماما بعد تحول الأحداث في تونس إلي ما دعي بثورة الياسمين وبعد خروج الرئيس التونسي من البلاد.. وبعد أن تحول الحادث وصاحبه من تعبير عن اليأس من ضغوط الحياة إلي رمز للتحرر والاستقلال وأيقونة للتضحية بالذات في سبيل قضية الحرية.. هل دعوها ثورة الياسمين لأنهم اشتموا رائحة حرق جسد بو عزيزي ياسمينا في أنوفهم؟ أم لأنه احترق كقربان البخور البوذي القديم فانتشر عطر الياسمين الذي ألهب القلوب؟ أم هي تسمية غربية كما يدعي البعض ولها مقاصد خفية ترمز إلي انتشار رائحة الياسمين خارج الحدود التونسية إلي الجيران العربية؟ وماذا عن الآخرين الذين أقدموا علي حرق أنفسهم علي الطريقة البوعزيزية؟ هل هي مجرد محاكاة صادرة عن أناس يائسين يريدون أن يجتذبوا أنظار مجتمعاتهم؟ أم هي انتشار لرائحة الياسمين؟ لقد مات بو عزيزي فهل احترقوا هم أيضا حتي الموت، وكانوا عن قصد يقدمون أرواحهم وأجسادهم قربانا؟ ألا يجدر بنا أن نبحث عن طرق مختلفة للتعبير عن يأسنا وأحلامنا، وما نريد أن نقوله، وما نمتنع عن قوله.. لِمَ نسير بطريقة القطيع الذي يقوم بالمحاكاة حتي في الموت؟ ألا نستطيع الإبداع في وسائل اعتراضنا؟ ألا يمكن أن ننتهج سبلا جديدة ليست بالضرورة بو عزيزية، ولا بوذية، ولكنها ذات فعالية