لا يحاول الفيلم الأمريكي الفرنسي الكندي المشترك «Splice» أو كما عرض تجارياً في الصالات المصرية تحت اسم «المتوحشة» أن يقول أشياء لا نعرفها عن اختراق العلم للحواجز الأخلاقية فتسود الفوضي وتتحول الكائنات إلي مسوخ، ولكن ما أعجبني في الفيلم السيناريو المتماسك، والتوظيف الجيد للمؤثرات البصرية والصوتية، والابتعاد عن التعقيد وكثير من الادعاء الذي يغلف بعض أفلام الخيال العلمي، هي إذن - قصة الدكتور «فرانكشتن» الذي قرر أن يصنع مخلوقاً مبتكراً فأصبح لدينا وحش خارق ولكنها هنا منسوجة بذكاء وببراعة وبتفصيلات مختلفة ومبتكرة حتي لو كانت النتيجة واحدة وهي تقول العلم الذي لا يخدم الإنسان لا معني له، وانهيار القوانين التي تحكم الحياة الإنسانية يعني الفوضي الشاملة. ربما كان من الأفضل في البداية أن نشير إلي أن ترجمة اسم الفيلم الذي أخرجه «فنسينز وناتالي» وشارك أيضاً في كتابته أي «المتوحشة» لا يعطي دلالة جيدة عن موضوعه، فالترجمة الحرفية للكلمة الإنجليزية «Splice» تعني الزواج أو الاقتران بين طرفين بما يجعلهما مثل الضفيرة أو الجديلة الواحدة، وهذه بالضبط التجربة التي سيقوم بها العالم «كلايف نيكولي» (آدريان برودي) وزوجته العالمة (إيلسا) (سارة بوللي) للمزج بين خلايا حيوانية والحامض النووي للإنسان لتخليق كائن جديد يمكن أن يساعد في تجارب متقدمة للقضاء علي أمراض الشيخوخة والزهايمر والسكر والسرطان. أصل الفكرة إذن نبيل للغاية، ولكنها سرعان ما ستتطور إلي كارثة عندما يتحول المخلوق أو المخلوقة المصنوعة إلي مأساة حقيقية تدمر كل شيء في الجزء الأخير من الفيلم. هذا هو الإطار العام الذي لا يختلف عن أفلام كثيرة تنتقد انفصال التجارب العلمية عن أي معايير أخلاقية، ولكن السيناريو في فيلم «المتوحشة» متماسك وشيق والبناء يتم علي مهل، والتفصيلات تنسج في هدوء، ويمكن أن نتحدث عن عدة أجزاء أو لحظات انتقال متداخلة قدمت بإيقاع سلس ومتدفق، في أول جزء نتعرف علي التجربة الأصلية التي يخوضها العالم «كلايف» وزوجته «إيلسا»لتخليق كائنين من مواد بروتينية يطلقان عليهما اسمي «فريد» «وجنجر» أشهر ثنائي راقص في تاريخ الأفلام الاستعراضية، في الجزء الثاني يحدث الخلاف مع مسئولة الشركة التي يعملان بها التي تتحدث عن تكليف علمي لا يتناسب مع طموح العالمين اللذين يقرران إنجاز تجربتهما الخاصة بتخليق كائن يجمع بين الإنسان والحيوان، في الجزء الثالث يستغل الزوجان معملهما في الشركة في إنجاز تجربتهما، ولا يعيب هذا الجزء الجيد تنفيذاً وخيالاً إلا صعوبة تصديق أن يحدث ذلك في شركة عملاقة يتم معرفة كل ما يدور بداخلها. وهكذا يولد المخلوق العجيب وهو أنثي يطلقون عليها اسم «درين» تنمو بسرعة صاروخية، وتصبح بالنسبة للعالمة إيلسا مثل ابنتها التي لم تنجبها أو بمعني أدق التي لم ترغب في إنجابها، وفي الجزء الرابع تكبر «درين» وتصبح مراهقة لها جسد امرأة جميلة ورجلان تشبهان الحيوانات، فيتم نقلها إلي مزرعة ورثتها «إيلسا» عن والدتها، وهناك يكتشف «كلايف» أن «درين» أضيف إليها الحامض النووي لزوجته، ويتورط في علاقة جسدية مع المخلوقة المشوهة مما يدعو «إيلسا» إلي بتر أجزاء من «درين» ، وفي الجزء الأخير تبدو «درين» علي وشك الموت، ولكنها تتحول من أنثي إلي ذكر مثلما حدث مع الثنائي «فريد وجنجر»، وهكذا يتم اغتصاب «إيلسا» من المخلوق المشوه، ويتم قتل زوجها «كلايف» وفي المشهد الأخير لا تتوقف الشركة عن استغلال نتائج التجربة، في حين تبدو «إيلسا» في انتظار مولود، وتتساءل في وجوم: «ما الذي يمكن أن يحدث أسوأ من ذلك»؟ لعلك قد لاحظت إلي أي مدي تتماسك الأجزاء، وكيف ينقلك كل جزء إلي الجزء الذي يليه، لا يخلو البناء من نقاط ضعف قليلة مثل حكاية المعمل السري الذي لا تشعر به ادارة الشركة العملاقة التي تسير فيها التجارب بدقة، ومثل حكاية جنون والدة إيلسا، الراحلة، وهي معلومة لم تستغل بشكل جيد، فلم نفهم.. هل تخشي «إيلسا» من الانجاب حتي لا يرث ابنها الجنون، لقد بدت المعلومة غامضة أو ربما كان لها خط درامي تم حذفه في المونتاج، ولكن في مقابل هذه الثغرات كان هناك التوفيق الأكبر في النسج البارع للعلاقة بين المخلوقة «درين» والعالمة «إيلسا» التي تتابع نموها يوما بيوم، تكتشف مثلا حبها للمواد السكرية، وتكتشف مع زوجها أن المخلوقة تستطيع أن تغوض في الماء، وفي أحد أجمل وأهم مشاهد الفيلم ينبت جناحان ل«إيلسا» يجعلاها تطير، ولكن عندما تحتضنها اسرتها البشرية تعود إليهم لأنها تفتقد الحب والحنان، الحقيقة أن المخلوقة «إيلسا» التي لعبت دورها دون كلمة حوار واحدة «ديفلين شانياك» من أجمل المسوخ التي شاهدتها، ومن أفضلها في تحديد ملامحها ورسم تفاصيل نموها وكأنها إنسان كامل. وفي مستوي آخر لا يفلت لحظة من كتاب السيناريو، يتم التلاعب بين ثنائيات كثيرة وكأن الحكاية لا تزاوج بين الإنسان والحيوان في جديلة واحدة، ولكنها تحاول أن تزاوج بين الخير والشر والحب والكراهية والموت والحياة، ويؤدي خرق العالمين للقواعد الأخلاقية إلي فوضي كاملة تعبر عن نفسها في صورة تفصيلات عديدة، «درين» مثلاً أصلا مزيج من حامض نووي من «إيلسا» بالاضافة إلي خلايا حيوانية، في البداية تولد «درين» كأنثي جميلة تحاول إغواء الزوج «كلايف»، ثم تتحول إلي ذكر يغتصب «إيلسا» نفسها، ولك أن تتخيل هوية للطفل المقبل من هذا الاغتصاب، الفوضي تعبر عن نفسها في كل شيء كأن كل القوانين التي نعرفها قد انهارت، لا حدود بين الإنسان والحيوان والطيور، لا حدود بين الخير والشر، لا حدود بين تجربة قائلة وأخري يخرج منها بروتين يمكن أن يساعدني في اكتشاف علاج للأمراض الخطيرة، لا حدود حتي بين مشاعر الحب والكراهية بين «إيلسيا» وابنتها ومخلوقتها البائسة «درين».. ليس هناك إلا الفوضي إذا تم خرق القواعد الأخلاقية التي تدار بها التجارب العلمية. علي مستوي التنفيذ، كانت العناصر الفنية علي مستوي جيد جدًا خاصة في بناء شخصية «درين» من الطفولة إلي المراهقة إلي تحولها المتوحش الأخير، وأفضل مشاهدها في علاقتها الإنسانية مع «إيلسا وكلايف»، وفي أحد أجمل مشاهد الفيلم ترقص بسعادة مع «كلايف» الذي يكتشف كم هي قريبة من زوجته «إيلسا» التي منحتها الحامض النووي، تعامل الفيلم مع المسخ المخلوقة كما يتعامل تماما مع أبطاله البشر.. مشاهد بأكملها تم تنفيذها بإتقان بإدارة مخرج فاهم ولديه عين ذكية تنقل إليك الحدث من وجهات نظر متنوعة بما في ذلك وجهة نظر الكائن «فريد» والكائن «جنجر» في مشهد البداية، أو وجهة نظر «درين» في لقطات كثيرة مما أعطي إحساسًا بالحياة، فاهتزت الكاميرا علي وقع ضربات القلب، ربما كان الفيلم من إخراج «ستيفن سبيلبرج» لصنع ملحمة من مشهد ظهور الأجنحة في جسد «درين» ثم احتضانها للعالم «كلايف»، ولكن مخرج «المتوحشة» نجح إلي حد كبير في خلق الجو، وفي توصيل مشاعر أبطاله ومخلوقاتهم المشوهة، كما قدم إيقاعًا متدفقًا يشد المتفرج من المشهد الأول وحتي المشهد الأخير. كان أداء «أدريان برودي» و«سارة بوللي» لدوريهما «إيلسا» و«كلايف» عاديا، وبدا أحيانًا عدم وجود تناسب جسدي بينهما حيث ظهرت «سارة» قصيرة للغاية مقارنة ب«آدريان» مما أعطي تأثيرًا كوميديا بعض الشيء ولكن «ديفلين تشانياك» في دور «درين» استأثرت بدرجة عالية من جذب الانتباه رغم أنها لم تنطق أبدًا بكلمة واحدة وساعد «ديفلين» علي التميز اللقطات القريبة جدًا التي نقلت أدق تعبيرات وجهها من الخوف إلي الحب إلي الإغواء إلي الغضب والقلق والشراسة، «درين» هي تقريبًا الفيلم كله، وكم كان ذكيا أن يكون اسمها عشوائيا ونتيجة لخلطه فوضوية من الحروف مثلما كانت التجربة بأكملها نموذجا لحالة الفوضي التي يمكن أن يسببها ترك الساحة للعلماء وحدهم لكي يقرروا مصير الإنسان علي وجه الأرض.