من أهم ملامح مهرجان " كان " الحادي والستين شموخ المرأة كأم وشجاعتها، وقد برز ذلك في عدد كبير من الأفلام المشاركة في المسابقة الرسمية، التي اضطلعت فيها المرأة بدور الأم كحارس للطفولة،وللإنسانية،ومستقبل الإنسان. ولاشك ان لجنة تحكيم المهرجان في هذه الدورة، سوف تجد صعوبة يقينا في اختيار الممثلة التي تستحق الفوز بجائزة أحسن ممثلة في أفلام المهرجان من بين عدد كبير من الممثلات النجمات اللواتي حققن شهرة عالمية من قبل، مثل انجلينا في فيلم " تبادل " للأمريكي كلينت ايستوود، أو يلعبن هنا دور الأم ويمثلن لأول مرة، مثل الممثلة الأرجنتينية في فيلم " عرين الأسد".. ولاشك أن معيار الاختيار لن يكون أداء الممثلة في كل فيلم علي حدة فقط، بل سيشمل الجودة الفنية للفيلم أيضا، وتكامل عناصره في " كل " فني سينمائي شامل يستحوذ علي مشاعرنا في التو، وهنا ستكون المنافسة علي أشدها، بين عدد من أحسن الأفلام القوية الجيدة التي شاهدناها في المهرجان، ومن فرط إعجابنا بها، صارت قطعة منا، او كما يقول المخرج والمفكر الفرنسي السينمائي الكبير جان لوك جودار، أكبر منا.. حيث إن هذه الأفلام التي سافرت بنا في العالم من سان باولو في البرازيل الي لوس انجلوس في أمريكا، مرورا ببلجيكا، لم تشمخ بدور الأم فيها فحسب، بل تسامقت أيضا بجودتها وفنها، وعكست الظروف والمتغيرات، التي طرأت علي عالمنا المعاصر، وكشفت عن تناقضات مجتمعاتنا الإنسانية ومشاكلها وأزماتها تحت الشمس..بل وربما تكون مهدت أيضا لرسم وتشكيل ملامح أو موجات سينمائية جديدة، كما عودنا مهرجان " كان "، ككشاف للمواهب، وكمبدع أيضا لتيارات وموجات سينمائية حديثة، تتوافق مع مجتمعات في طور التشكل والتكوين، قبل أن تدلف الي حداثة القرن وتتواصل مع زمنها وعصرها.. في فيلم الافتتاح " العمي " اخراج البرازيلي فرناندو ميريل وبطولة جوليان مور وداني جلوفر، نسافر الي سان باولو في البرازيل، ونعيش في الفيلم قصة وباء العمي الذي ينتشر بسرعة داخل مدينة حديثة، يمكن ان تكون سان باولو في البرازيل، حيث صورت أغلب مشاهد الفيلم، أو أية مدينة أخري عملاقة حديثة مماثلة مثل طوكيو أو نيويورك أولندن- تحتها بالوعات وفوقها دخان وأهلها غرباء داخل جلودهم وحماك الله من انانيتهم وركضهم وتنافسهم - فتعلن الحكومة عن حجز المصابين بذلك الوباء في حجر صحي أو مستشفي خاص، لعزلهم عن بقية المواطنين الآمنين،الي ان يكتشف لوباء العمي علاج..غير أن ذلك العزل يتحول تدريجيا الي سجن كبير، تحت حراسة مشددة، وتسود الفوضي وحالة الارتباك بين العميان ضحايا الوباء، وتدلف الي داخل السجن خلسة زوجة طبيب العيون في الفيلم، وتصبح وهي الوحيدة التي تبصر، " العين " التي تري حرص الجميع علي البقاء بأي ثمن،وتدهور وانحطاط الوضع الأخلاقي والإنساني عامة، وتحول مكان العزل الي مستعمرة من الفضلات والوسخ، يتحكم فيها الاعمي القوي في الاعمي الضعيف، تصبح بطلتنا المبصرة " ضميرا " للإنسانية وتقوم عصابة من العميان داخل احد عنابر العزل بفرض هيمنتها وسطوتها وقانونها، قانون الغاب، فتقوم بتوزيع حصص الطعام بنفسها، ثم تطلب نظير كل حصة مبلغا من المال او أي شيء ثمين مثل المجوهرات والحلي، ثم تقوم باغتصاب النساء، ويحدث كل ذلك تحت بصر وسمع زوجة الطبيب المبصرة، غير انها تتمرد وتتزعم حركة مقاومة داخل السجن وتقتل زعيم عصابة العميان داخل تلك مستعمرة البؤس .ثم انها عندما تخرج من السجن، تقود مجموعة من العميان من أصدقائها وفي صحبة زوجها في شوارع المدينة، التي نفاجأ بأنها قد أصبحت بعد انتشار الوباء مدينة للعميان، الذين يسيرون ويتخبطون في الشوارع ويتبرزون في الاركان ويقومون بنهب الأسواق التجارية للبحث عن طعام، في حين تنهش بعض الكلاب في الجثث الملقاة علي الرصيف.وتعود بهم زوجة الطبيب الي بيتها وينتهي الفيلم في المطبخ، حين يشفي احدهم فجأة ويعود اليه بصره، وعلي أمل أن يسترجع الجميع قدرتهم علي " الرؤية " من بعد. وعلي الرغم من ان الفيلم لم يعجبنا، بسبب تقريريته وخطبه ومباشرته الزاعقة، وبدا لنا مخرجه في حيرة من أمره، ولا يعرف كيف يتصرف في القصة، وكيف ينهيها، كما فشل في ايجاد معادل موضوعي " لتجسيد الحكاية الرمزية، برزت الممثلة الامريكية جوليان مور في دور " المخلص " زوجة الطبيب في بعض مناطق ومواقف الفيلم، وظهر أن ادارة المهرجان اختارت هذا الفيلم " العمي " لكي تعلي في حفل الافتتاح من قيمة ودور المرأة في قيادة الإنسانية، لكن في فيلم ماسخ للأسف، بلا طعم ولا حضور ولا نكهة.. ونخرج من " العمي " في سان باولو لنسافر الي الأرجنتين، حيث نتعرف علي مأساة " جوليا "- 26 سنة - التي تستيقظ فجأة فتجد جثة صديقها غارقة في الدماء وإلي جواره يرقد صديقه المصاب والمجروح ايضا لكنه مازال علي قيد الحياة، وبسرعة تعتقل جوليا وتصبح متهمة بقتل حبيبها واصابة صديقه بجروح، وتنقل الي سجن النساء مع أطفال وهي حامل وحيث تعيش السجينات مع اطفالهن حتي سن الرابعة، ومن بعدها يقوم احد افراد الأسرة بتربية الطفل في الخارج، او تتكفل إدارة السجن بالبحث عن أسرة تتكفل به، ويرسم الفيلم صورة بالغة القوة لواقع سجن النساء في الارجنتين، وعملية تحول " جوليا " من امرأة بريئة ولم تنضج بعد، الي امرأة ذات شخصية قوية وإرادة من حديد، وبخاصة حين تجري لها عملية قيصرية وتلد طفلها، وتطلق عليه أسم " توماس "، وتتطور علاقتها تدريجيا بالطفل، وكانت قبل ان تلده تضرب بطنها بقبضتها علها تتخلص منه، وتتصور انه كان السبب وراء حبسها، لكنها تبدأ تنجذب اليه، وتقبل عليه وتحبه، وبسرعة يصبح توماس كل شيء في حياتها وتجسيدا لامومتها، وعليها الآن أن تربيه وتحميه، بانتظار التحقيق في جريمة القتل التي ارتكبتها، وتقديمها مع صديق زوجها الي المحاكمة، والتحقيق معهما لاكتشاف من القاتل..وتعود أم جوليا الي الارجنتين من فرنسا لتزور ابنتها جوليا في السجن، وتحاول بمساعدة احد المحامين ان تنتزع توماس من صدر أمه، لكي تربيه خارج السجن بمعرفتها، وتنجح بالفعل في ذلك، غير ان جوليا التي عشنا معها ومع توماس لحظات سعادة بهيجة ومشرقة حقا رغم قسوة السجن وعذاباته، لا تستسلم ولا تخضع ابدا، وتطالب بعودة ابنها اليها، وتصرخ أعيدوا الي طفلي، فيلقي بها في الحبس وتعامل مثل الكلاب، وتتعاطف معها السجينات اللواتي يقمن تضامنا معها واستجابة لمطلبها العادل في الحديث مع مدير السجن بحرق قطع الأثاث داخل الغرف وقلبها رأسا علي عقب والخبط علي الحلل وأدوات المطبخ، فيحضر مدير السجن بسرعة قبل أن تنشب ثورة، ويتفاهم مع جوليا لدرء الفضيحة، ويطلب منها تهدئة السجينات، ويسمح لجوليا بزيارة ابنها في الخارج. وتكون جوليا قررت امرا، وبخاصة بعد ان حكم عليها بالحبس لمدة عشر سنوات، فتخطف ابنها في نهاية الفيلم، وتهرب بتوماس الي خارج البلاد بجواز سفر مزور.وتشمخ هنا الممثلة الارجنتينية مارتينا جوسمان في دور جوليا، وتعيش الدور بكل مافيها من احاسيس ومشاعر، وتجعلنا في سجن النساء مع الأطفال نستشعر دورها كأم بمعني الكلمة ونعيشه معها الدورحتي النخاع، فنتأسي كثيرا حين ينزع منها فلذة كبدها، ونعجب بقوتها وشراستها في الدفاع عن حقها كأم في تربية طفلها، كما اننا نصفق لها حين تهرب به في نهاية الفيلم، ضد ماكينة القضاء الأرجنتينية الجامدة بلا قلب. وقد بدا لنا فيلم " ليونيرا " أحد أفضل محاولات الأفلام الواقعية في امريكا اللاتينية التي تنحو بنجاح الي مزج الروائي بالتسجيلي، وتخرج من الفيلم ولديك إحساس بأن لجنة التحكيم لابد وأن تكون قد أعجبت مثلك بالفيلم وتأثرت معك بأداء جوليا القوي المقنع الباهر الذي جعل " ليونيرا " أحد أقوي الأفلام التي شاهدناها حتي الآن في مسابقة المهرجان وأنها سوف تمنح مارتينا جوسمان جائزة أحسن ممثلة عن جدارة.. لكن وبمجرد اختفاء جوليا مع توماس في نهاية الفيلم الارجنتيني نسافر الي فرنسا،لكي تظهر لنا كاترين دينوف في دور الأم في فيلم "حكاية عيد الميلاد " للمخرج الفرنسي آرنو دبليشان، وتجعلنا نتعاطف مع دورها كأم مريضة، لعائلة كبيرة، ومريضة بمرض نادر، وبحاجة الي عملية نقل نخاع من أحد أفراد الأسرة الكبيرة المتنازعة، وتبدو هنا كاترين دينوف في أحد أفضل أدوارها علي الشاشة، وعليها كأم أن تحاول في الفيلم التفاهم مع كل أفراد العائلة الكبيرة، بتعقل وحنكة وحكمة، من أجل لم الشمل في سلام ومحبة، وبخاصة حين تهبط الأسرة بكامل أفرادها وعياله وأطفالها في بيت الأسرة الكبير، وتبرز هنا كاترين في فيلم يطرح مشاكل البرجوازية الفرنسية الكبيرة بعصبيتها وأنانيتها وتاريخها وصراعاتها وعقدها بأسلوب سينمائي باهر، وبحس فكاهي جد لاذع، يجعلنا نضحك كثيرا في الفيلم، الذي بدا لنا مثل قطعة جاتوه دسمة،لا تشبع ابدا من أكلها، وكنوع من " الترف " السينمائي، الذي لايقدر عليه الا دبليشان مخرج " ملوك وملكات "، الذي يتقدم ويتطور من فنه في كل فيلم، وبخاصة في هذا الفيلم الذي يمثل فرنسا مع فيلمين آخرين في مسابقة المهرجان،وصفق له هنا بالطبع النقاد الفرنسيون طويلا ورشحوه للحصول علي جائزة السعفة الذهبية، ولا نشاركهم رأيهم. ثم يطلع علينا الشقيقان داردين من بلجيكا بفيلمهما " صمت لورنا " الذي يكشف عن وجه جديد من خلال أداء الممثلة الجميلة أرتا دوبروشي من كوسوفو، وتلعب دور فتاة ألبانية مهاجرة الي بلجيكا، تتحايل علي البقاء هناك بأية طريقة فتتزوج زواجا غير شرعي علي ورق ومن دون معاشرة من مدمن علي المخدرات والهيروين، وبمساعدة سائق تاكسي مجرم، للحصول علي الجنسية البلجيكية، وتدفع نظير ذلك مبلغا من المال وبعد حصولها علي الجنسية تتفاهم مع سائق التاكسي المجرم علي أساس طلاقها بسرعة من زوجها المزيف المدمن وتحت الادعاء بأنه يضربها وتقديم شكوي ضده للبوليس، ونراها في اول الفيلم في صحبة زوجها المدمن وهما يعيشان في شقة ومن دون معاشرة الي ان يتم طلاقها منه، وعلي أساس ان ان تتزوج لورنا من جديد زواجا علي ورق من رجل عصابات روسي،ليسهل له ذلك الحصول علي الجنسية البلجيكية نظير مبلغ وقدره عشرة الآف يورو تمنح نقدا للورنا. وبعد حصول لورنا مباشرة علي ورقة الطلاق من زوجها المدمن، وقبل ان يغادر الشقة، يكون سائق التاكسي تخلص منه بسرعة بإعطائه جرعة هيروين زائدة خلصت علي حياته، غير أن لورنا تمنح زوجها المدمن في لحظة جسدها وتحمل منه، فيصبح الجنين في أحشائها عقبة تحول دون زواجها من رجل العصابات الروسي، وينهار حلم لورنا في فتح مطعم صغير في بلجيكا يجمعها وعشيقها الألباني الحقيقي، ويستيقظ ضمير لورنا وتستشعر الإثم الذي ارتكبته في حق زوجها المدمن، فتقرر الإبقاء علي الجنين، في حين تحاول العصابة التخلص منها لأنها تستطيع أن تفضح أمرهم للشرطة، بعد ان فشلت خطتهم الإجرامية. وتهرب لورنا في نهاية الفيلم إلي داخل غابة، وتعثر علي كوخ خشبي مهجور تحتمي بداخله، وتبدأ تخاطب الجنين في أحشائها ان يا طفلي سوف أحميك، ولن يستطيعوا أبدا قتلك، وتروح تخاطب ذلك الجنين في مونولوج طويل هامس مؤثر..غير ان فيلم " صمت لورنا " الذي يكشف عن وضع المهاجرين الي بلجيكا والتحايل علي البقاء بطرق إجرامية وغير شرعية، بدا لنا وعلي الرغم من حصول مخرجيه علي سعفتين ذهبيتين عن فيلمين " روزيتا " و " الابن " في دورات سابقة من المهرجان، أقل وقعا وتأثيرا من الفيلمين المذكورين، وأقرب الي الفيلم الكلاسيكي التقليدي ولا غبار عليه، كما إننا لسنا ضد الكلاسيكية في السينما، غير انه لم يبلغ فقط المستوي السينمائي الذي كنا نتوقعه من المخرجين الكبيرين،وعلي الرغم من تألق آرتا دوبروشي في دور الشابة الألبانية المهاجرة الي بلجيكا، وكشف الأخوين داردين في فيلمهما الواقعي عن آليات الجريمة المنظمة،وعن عملية انتقال الأموال من يد إلي يد في الفيلم، ودوران رأس المال، وخضوع الأفراد في المجتمعات الصناعية الغربية الي المادة التي صارت تتحكم الآن في كل شيء، وتدوس علي القيم و المثل والعواطف النبيلة، وكل تلك الفضائل التي يفاخر بها الإنسان. ثم نسافر مع أفلام المهرجان الي لوس انجلوس في أمريكا، ونعود الي الوراء الي عام 1928، حيث نتعرف علي السيدة كريستين والتر، في فيلم " تبادل " للامريكي كلينت ايستوود - 78 سنة، منها 30 سنة سينما _ وتقوم بدورها في الفيلم الممثلة الأمريكية النجمة انجلينا جولي، وتعيش كريستين في الفيلم وحدها مع ابنها والتر، في التاسعة من عمره، بعد أن هجرها زوجها، خوفا من مشاركتها مسئولية تربية الابن، وهرب بجلده. وتعمل كريستين في شركة اتصالات تليفونية في لوس انجلوس المدينةونراها في المشاهد الأولي من الفيلم كرست كل حياتها لعملها وابنها، حتي انها ترفض دعوات رئيسها في العمل للخروج معها، وإقباله عليها وتودده إليها، فلم تكن كريستين تهتم بمثل تلك أمور، أو تبحث عن رجل يملأ عليها حياتها، بل كانت تركز علي تربية الصغير وتعليمه، ونجحت في ان تجعله يكبر بسرعة، ويعتمد علي نفسه، فلا يخاف الظلام، لا يخشي أن تتركه أمه في البيت وحده..وذات يوم تعود كريستين كولينز من عملها فلا تجد والتر في البيت فتقلق كثيرا عليه، وتروح تبحث عنه في جنون في كل مكان من دون جدوي، فتقرر الاتصال بالبوليس الذي يطمئنها الي أن والتر مثل بقية الاطفال الذين يتغيبون، سيعود في اليوم التالي الي حضن أمه، وان الشرطة لاتبدأ في البحث عن الاطفال الضائعين المفقودين الا بعد مرور 24 ساعة علي اختفائهم، لكن تمر الشهور من دون ان يعثر علي والتر أي أثر وكأنه فص ملح وذاب، أو كأنه تبخر في الجو.لكن بعد مرور 5 شهور يبلغ مدير شرطة لوس انجلوس كريستين بأنهم عثروا اخيرا علي ابنها والتر، وتصطحبه كريستين الي محطة القطار، وتسارع عند وصوله الي الركض علي الرصيف لاستقبال ابنها مع الصحفيين والمصورين الذين حضروا الي المحطة لتغطية الحدث، ويقف القطار ويهبط منه والتر، وتفاجأ كريستين بأنه ليس أبنها والتر بل صبي آخر غير ابنها، وتقبل تحت ضغط مدير الشرطة أن تجرب ابنها المزيف الجديد لمدة أسبوعين فقط، ومن بعدها تواصل الشرطة بحثها عن ابنها، وتبدأ كريستين حياة جديدة مرعبة مع هذا الصبي الغريب الذي حل في دارها، وتحاول أن تحل ذلك اللغز المخيف، فلاشك ان هناك من يتآمر علي حياتها وهي تريد فقط أن تعرف أين ابنها، و ما حدث له، ومن يكون ذلك الكائن الغريب الذي يمثل عليها دور الابن، وينام في فراش والتر، ولمصلحة من، وتبحث كريستين كولينز عن إجابة لتلك التساؤلات المحيرة، وتفتش في الفيلم عن الحقيقة، وتدريجيا تكتشف ان شرطة لوس انجلوس في تلك الفترة أي في العشرينيات في أمريكا كانت وكرا للفساد، ولم تكن تهتم بالبحث عن ابنها، بل بفرض سيطرتها علي الجريمة المنظمة في المدينة، بعد ان تخلصت من المجرمين واللصوص بقتلهم، ووضعت رجالاتها في مكانهم، وتدرك كل هذه الأمور من خلال راعي كنيسة، تعرفت عليه، ويقرر أن يقف الي جوارها في معركتها مع شرطة لوس انجلوس ومحاربة الفساد، لاكتشاف حقيقة ما جري لابنها والتر..أعتبر فيلم " تبادل " من أقوي الأفلام التي عرضها المهرجان، ومن المحتمل كما أتصور لعدة اعتبارات سوف اذكرها لاحقا أن يفوز الفيلم بجائزتين : جائزة أحسن فيلم في المهرجان _ السعفة الذهبية- وتمنح الي مخرج الفيلم ايستوود، وجائزة أحسن ممثلة وتمنح لبطلة الفيلم الممثلة انجلينا جوليا التي لعبت كريستين كولينز أم والتر وتألقت في ادائها الانساني الرائع كأم .حيث أن الفيلم علي مستوي الشكل، قد بدا لنا جميلا و أنيقا بكلاسيكيته، وانسيابية احداثه التي حبست أنفاسنا، ونعومة اخراجه، كما في الملاحم الكبري لكبار حكواتية عصرنا مثل هوميروس اليوناني، من خلال عنصر التشويق الجميل في الفيلم، ويقدم أحد أرفع نماذج السينما الهوليودية المتمكنة من فن الحكي ورسم الحبكة الدرامية وتأليف وتوليف السيناريو المتماسك المتين، كما في أفلام كابرا وجون هيوستون واليا كازان، .. نموذج يجعلنا كما في أفلام ملك الرعب هتشكوك، مشدودين من التوتر والترقب والرعب الي مقاعدنا، ونريد أن نعرف مع كريستين كولينز أين اختفي ابنها المفقود. ولنتبين في ما بعد ان الفيلم يشتمل علي عدة طبقات ومستويات، حيث ان المسألة في الفيلم هي أكثر من مجرد البحث عن الابن فقط، اذ تشمل كذلك المعركة التي تخوضها كريستين لاكتشاف الحقيقة ضد شرطة لوس انجلوس الفاسدة، وعمدة المدينة الفاسد،وسلطة الدولة ومؤسستها القانونية، بحيث انها كريستين تتحول في الفيلم الي رمز للثورة علي الفساد، وتجعل المواطنين في المدينة يخرجون للتظاهر في الشارع بعد أن أدركوا ان ادارة الشرطة بدلا من ان تخدمهم وتحميهم، كانت تستغلهم وتبتزهم وتسرقهم، وتلقي بمن يحتج او يحاول فضحها منهم او الاعتراض علي ماتفعل، خلف جدران المصحات العقلية. كما تتضمن ايضا وعلي مستوي آخر حكاية سفاح مرعب كان يقوم باختطاف الأطفال والاعتداء عليهم في مزرعته في ريف لوس انجلوس، وحبسهم في عشة فراخ، قبل ان يقوم بقتلهم وذبحهم مثل الأرانب من بعد، وتمزيق جثثهم بالبلط والسكاكين ويذكرنا بحكاية " ريا وسكينة " في فيلم صلاح ابوسيف الاثير، ويجعلنا نرتعد من الخوف والرعب حين يتجه رجال الشرطة الي مزرعة السفاح في الفيلم، ويكتشفوا جثث أكثر من عشرين طفلا مطمورة في التراب، كما يشتمل الفيلم الذي يسمح بعدة قراءات ايضا علي جزء خاص بالعلاج النفساني كما كان يمارس في فترة العشرينيات في أمريكا، والفيلم كله يعتبر وثيقة سياسية مهمة لتلك الفترة لأنه يعتمد علي قصة حقيقية وقعت بالفعل،وتقود بطلته معركة ضد السلطة وهي تفتش عن حقيقة ما جري لابنها، وهو لكل تلك الاعتبارات التي ذكرناها يستحق الفوز بسعفة " كان " الذهبية، التي سوف تكون عندئذ قد منحت أولا لفيلم أقل ما يمكن القول عنه انه جيد ومشوق ونموذج أنيق ورفيع للسينما الهوليودية الذكية، كما منحت ثانيا لمخرج أمريكي نحبه ونقدره، يشتغل في السينما تمثيلا وإخراجا وإنتاجا منذ أكثر من ثلاثين عاما، ووهبها كل حياته وعمره، ويعتبر " أيقونة" من أيقونات عصرنا، وستكون تلك الجائزة أيضا بمثابة "تكريم " لمسيرته السينمائية الطويلة، وتحية لكلينت ايستوود الإنسان، وما يمثله، وفنه.