يواصل الدولار الارتفاع الجنونى والوصول إلى أرقام قياسية، فى حين يواصل معظمنا الاندهاش أو الغضب أو الترقب أو انتظار معجزة سماوية تعيد إلى الجنيه صورته الأولى التى لا نعرف ما هى!!. أما المأساة فهى أن غالبيتنا لا تريد أن ترى جذور المشكلة الفعلية، وبالتالى فأغلب الظن أن الأزمة سوف تستمر، بل وربما تتفاقم إذا استمرت نفس السياسات والأفكار. قبل أيام قفز سعر الدولار ليتجاوز 11.50 جنيه وقيل إنه تجاوز حاجز ال12 جنيها فى بعض المناطق بما يعنى أن الجنيه خسر ما يساوى نصف قيمته بالكامل فى شهور قليلة. وفى يوم واحد خسر 112 قرشا بقرار من البنك المركزى، ثم خسر خمسين قرشا فى يوم آخر بقرار من المضاربين. وقبضت الحكومة على تسعة من أصحاب الصرافات، ثم تلقت وديعة من الإمارات بقيمة 2 مليار دولار فتراجع سعر السوق السوداء قليلا ليعود إلى ما دون 11 جنيها. شخصيا وحتى أعوام قليلة كنت أعتقد أن سبب الأزمة الرئيسى هو مضاربات بعض تجار العملة أو جنون الاستيراد خصوصا للسلع غير الأساسية. لكن بعد أن سألت وناقشت بعض الخبراء، فإن هناك أكثر من سبب فى مقدمتها انعدام أو ضعف الاستثمار وتراجع الإنتاج وعجز الموازنة، وتراجع عائدات السياحة وتحويلات المصريين فى الخارج. هذه هى الأسباب الجوهرية وبعضها جوهرى جدا وبعضها أقل قليلا. وبالتالى فإن الاعتقاد بأن مضاربات أصحاب الصرافات هو السبب يعتبر هروبا إلى الأمام من المشكلة. سوف نفترض نظريا أنه تم إغلاق كل محلات الصرافة والقبض على أصحابها أو نفيهم إلى زيمبابوى، فهل سوف تنتهى المشكلة؟!.الإجابة هى لا بكل تأكيد. السؤال هو: هل معنى ذلك أن نترك هؤلاء المضاربين يمارسون هوايتهم فى تدمير الاقتصاد؟. الإجابة هى لا أيضا، بل ينبغى معاقبتهم بأشد القوانين الموجودة، أو إصدار تشريعات، لا تكتفى بإغلاق الصرافات، بل بعقوبات شديدة لأصحابها إذا ثبت فعلا أنهم يلعبون دورا فى تدمير الاقتصاد. السؤال الثانى: هل هناك فعلا مؤامرة إخوانية لجمع الدولارات من العاملين المصريين فى الخارج، وأنها السبب فى الأزمة؟. المؤكد أن هناك تجار عملة كثيرين ينتمون إلى الإخوان، والمؤكد أن عددا ليس قليلا من أصحاب الصرافات ينتمون إلى الجماعة أو يتعاطفون معها، والمؤكد أن بعضهم حاول جمع دولارات فعلا من بعض العواصم الخليجية، لكن هذا الأمر لم يكن أيضا مقصورا على أعضاء الجماعة، بل شمل تجارا آخرين، وهدفهم لم يكن سياسيا، بل الحصول على العملة الصعبة لتمويل عمليات الاستيراد، بتسلم الدولارات فى العواصم الخليجية من المصريين وتسديدها بالجنيه فى مصر. السؤال الثالث: هل تخفيض عمليات استيراد السلع غير الأساسية سيلعب دورا فى حل المشكلة؟ الإجابة نعم لكن جزئيا، أى أنه لن يحل كل المشكلة، لأنها أكبر من ذلك كثيرا. وبالتالى علينا أن نوقف بكل الطرق استيراد السلع غير الأساسية أو نرفع عليها الجمارك والرسوم إلى أعلى معدل ممكن أو «نطهق أصحابها فى عيشتهم» فى إطار القانون، كى يوفروا هذه الدولارات لتمويل استيراد القمح والزيت والأدوية وألبان الأطفال. إذا المشكلة ليست هى هذه الأساطير الثلاثة التى نرددها كل يوم، أى المضاربين أو الاستيراد الترفى أو الإخوان وتجار العملة فى الخارج. هذه العوامل الثلاثة لها تأثير فعلى لكنه ليس كبيرا. أما المشكلة الجوهرية فهى أن يكون لدينا إنتاج أكثر من الاستهلاك أو مساو له، وتصدير أكبر من الاستيراد، وأن نجذب استثمارات أجنبية ومحلية كثيرة، توفر فرص عمل وتنتج سلعا نصدرها فنأتى بعملة صعبة وتنعش السياحة. من دون ذلك سوف تستمر المشكلة للأسف الشديد. وبالتالى فإن الاعتقاد بأن بعض الإجراءات الإدارية مع كل التقدير لها ستحل المشكلة، يعنى ببساطة أننا ذاهبون إلى مأساة أكبر.. وربنا يستر.